الآيات 1 - 6
﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذا اكْتَالُواْ عَلَى الْنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلاَ يَظُنَّ أُوْلَـئكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْم عَظِيم (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ (6)﴾
سبب النّزول:
قال ابن عباس: لمّا قَدِمَ نبيّ اللّه المدينة، كانوا من أبخس النّاس كيلاً، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقيل: كان تجار المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللّه (ص) فقرأها عليهم وقال: "خمس بخمس"، قيل يا رسول اللّه، وما خمس بخمس؟
قال: "ما نقص قوم العهد إلاّ سلط اللّه عليهم عدّوهم!
وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلاّ فشا فيهم الفقر!
وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت!
ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين!
ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر!" (1).
وروى العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: إنّ رجلاً كان في المدينة يقال له (أبو جهينة) كان له صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فنزلت هذه الآيات. (2)
التّفسير:
ويلٌ للمُطفِّفين:
بدأ الحديث في هذه السّورة بتهديد شديد للمطففين: (ويل للمطفّفين).
وتمثل الآية في حقيقة توجيهها، إعلان حرب من اللّه عزّوجلّ على هؤلاء الظالمين، الذين يأكلون حقّ النّاس بهذه الطريقة القذرة.
"المطفّفين": من (التطفيف) وأصله من (الطف)، وهو جوانب الشيء وأطرافه، وإنّما قيل لكربلاء بـ (وادي الطف)، لوقوعها على ساحل نهر الفرات، و (الطفيف) : الشيء النزر، و (التطفيف) : البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى أصباره.
"ويل": تأتي بمعاني: حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، المشقّة من العذاب، واد مهيب في نار جهنم، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشيء، ورغم صغر الكلمة إلاّ أنّها تستبطن مفاهيم كثيرة.
وروي عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "ولم يجعل اللّه الويل لأحد حتى يسميه كافراً، قال اللّه عزّوجل: (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) (3).
وما نستفيده من هذه الرّواية هو: إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر.
وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الاُولى: (الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون) (4).
وتقول الآية الثّانية: (إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون) وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ الآية أرادت بـ "المطفف" مَن يأخذ عند الشراء أكثر من حقّه، ويعطي عند البيع أقل من الحقّ الذي عليه، والـ "ويل" إنّما جاء بلحاظ هاتين الجهتين.
ولكن ما ذهب أُولئك المفسّرون غير صحيح، بدلالة "يستوفون" التي تعني أخذهم بالكامل، وليس ثمّة ما يدلّ على أخذهم أكثر من حقّهم، ويمكننا توجيه (الذم) الحاصل، باعتبار أخذهم حقّهم كاملاً عند الشراء، وينقصون من حقّ الآخرين عند البيع، كمن يريد أن يذم شخصاً بقوله: ما أغربك من رجل، تراك تأتي في الموعد المقرر عندما تكون دائناً، وتتهرب من أداء ما عليك عندما تكون مديناً.
فأخذ الحقّ في موعده المقرر ليس عملاً سيّئاً، ولكن حصول الحالتين (أعلاه) في شخص واحد هو الشيء.
وقد جاء ذكر "الكيل" في الآيتين عند حالة الشراء، وذكر "الكيل" و"الوزن" عند حالة البيع، وربّما يرجع ذلك لأحد سببين:
الأوّل: كان تجار تلك الأزمان الكبار يستعملون (المكيال) عند شرائهم للكميات الكبيرة من المواد، لأنّه لم يكن عندهم ميزان كبير يستوعب تلك المواد الكثيرة. (وقيل: إنّ (الكُر)، كان في الأصل إسماً لمكيال كبير... والكُر: مصطلح يستعمل لقياس سعة الماء).
أمّا في حالة البيع، فكانوا يكيلون لبيع الجملة، ويزنون لبيع المفرد.
الثّاني: إنّهم كانوا يفضلون استعمال المكيال عند الشراء، لصعوبة الغش فيه، ويستغلون الميزان عند البيع لسهولة الغش فيه!
وممّا ينبغي الإلتفات إليه...إنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن، لاينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة "المطففين" المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.
ويتوسع البعض في مفهوم الآية أكثر وأكثر حتى يجعل أيّ تجاوز لحدود اللّه، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.
ومع أنّ ظاهر ألفاظ الآية لا يرمز إلى هذه المعاني، ولكنّها لا تخلو من مناسبة.
ولذا، فقد ورد عن ابن عباس، أنّه قال: (الصلاة مكيال، فمن وفى، وفى اللّه له، ومَن طفف، قد سمعتم ما قال اللّه في المطففين) (5).
ويهدد القرآن الكريم المطففين، باستفهام توبيخي: (ألاّ يظنّ أُولئك أنّهم مبعوثون). (ليوم عظيم).
يوم عظيم في: عذابه، حسابه وأهواله. (يوم يقوم النّاس لربّ العالمين).
أي، إنّهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب: وأنّ أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرّها، وكبيرها وحقيرها، لو كانوا يعتقدون ذلك، لما ظلموا أحداً، ولأعطوا النّاس حقوقهم كاملة.
وقد اعتبر كثير من المفسّرين: إنّ "الظن" الوارد في الآية من "يظن" بمعنى (اليقين) : كما هو في الآية (249) من سورة البقرة: (قال الذين يظنون أنّهم ملاقوا اللّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه)، وهذه الآية كانت تتحدث عن المراحل المختلفة لإيمان واستقامة بعض بني إسرائيل.
وممّايشهد على ما ذُكر أيضاً، ما روي عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير الآية: (ألاّ يظنّ أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم)، أنّه قال: "أليس يوقنون أنّهم مبعوثون"؟ (6)
وروي عنه (ع) أيضاً، أنّه قال: "الظن ظنان، ظنّ شك وظنُّ يقين، فما كان من أمر المعاد من الظنّ فهو ظنّ يقين، وما كان من أمر الدّنيا فهو على الشك". (7)
واحتمل البعض: إنّ "الظنّ" الوارد في الآية، هو ذات "الظنّ" المتعارف عليه في زماننا، وهو غير اليقين، فيكون إشارة إلى أنّ الإيمان بالقيامة يترك أثراً في روح الإنسان، يجعله يتنزّه عن الوقوع في الذنوب والظلم، حتى وإن كان ذلك الإيمان بنسبة "الظنّ"...فكيف به إن كان يقيناً؟!
ويصطلح العلماء على هذا المعنى، عنوان (دفع الضرر المظنون) أو (دفع الضرر المحتمل).
فيكون مفهوم الآية، على ضوء ما ورد: ليس المطففين العاصين لا يملكون اليقين بوجود يوم القيامة، بل إنّهم لا يظنون بذلك أيضاً. (ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب).
و"الظنّ" - كما يقول الراغب في مفرداته - : اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدَّ التوهم.
وعليه...فاصطلاح "الظنّ" - بخلاف ما يتبادر إليه الذهن في زماننا - يشمل العلم والظنّ، ويستعمل في الحالتين.
ملاحظة:
التطفيف من عوامل الفساد في الأرض:
تعرض القرآن الكريم للتطفيف في الوزن مراراً، ومن ذلك ما جاء في الآيات (181 - 183) من سورة الشعراء، حينما خاطب شعيب (ع) قومه قائلاً: (أُوفوا الكيل ولا تكونوا من الُمخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)
فالتطفيف في الوزن والكيل من الفساد في الأرض، وذلك لما تنتج عنه من مفاسد اجتماعية ذات أبعاد واسعة.
كما جاء التأكيد في الآيتين (7 و 8) من سورة الرحمن على ضرورة الإلتزام بالعدالة حين استعمال الميزان، بعد الإشارة إلى أن العدل أصلٌ قد روعي فيه حتى نظام الخلق في عالم الوجود: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان).
ولذا، نجد أئمّة أهل البيت (ع) قد أَولوا هذا الموضوع اهتماماً بالغاً، حتى روي عن الأصبغ بن نباتة، أنّه قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول على المنبر: "يا معشر التجار! الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر" إلى أن قال: "التاجر فاجر، والفاجر في النّار، إلاّ من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ". (8)
وفي رواية عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "كان أمير المؤمنين (ع) بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدّرة على عاتقه (لمعاقبة المخالفين)، فينادي: يا معشر التجّار اتقوا اللّه عزّوجلّ، فإذا سمعوا صوته (ع) ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول (ع) : قدموا الإستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف (ع) في جميع أسواق الكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس" (9).
وبشأن نزول الآيات، قال النّبي الأكرم (ص) : "ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات واُخذوا بالسنين".
وزبدة ما تقدم: يعتبر التطفيف في الميزان من العوامل الأساسية في عذاب وهلاك بعض الاُمم السالفة، حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام الإقتصادي عندهم من جهة، وإلى نزول العذاب الإلهي عليهم من جهة اُخرى.
وقد حثّت الرّوايات الواردة في خصوص آداب التجارة على الأخذ ناقصاً والعطاء راجحاً، أي بعكس سلوكية مَن ذمتهم الآيات المبحوثة، فهم يأخذون بدقّة ويعطون ناقصاً. (10)
وكما قلنا في تفسير الآية، فثمّة من يذهب إلى أنّ مفهوم التطفيف أوسع من أن يحدد بالكيل والميزان، ويمتد ليشمل أيّ انقاص في عمل، وأيّ تقصير في أداء وظيفة فردية أو اجتماعية أو إلهية.
1- تفسير الفخر الرازي، ج31، ص88; وكذلك..أبو الفتوح والمراغي في تفسيريهما.
2- مجمع البيان، ج10، ص452.
3- اصول الكافي، ج2، ص32; وعنه نور الثقلين، ج5، ص527.
4- "على النّاس": اشارة إلى ما لهم لدى النّاس، والتقدير: (إذا كالوا ما على النّاس) وذلك عند الأخذ منهم، وهو ما نستفيده من (كال عليه)..أمّا (كاله) أو (كال له) فهو عند العطاء.
5- مجمع البيان، ج10، ص452.
6- تفسير البرهان، ج4، ص438.
7- نور الثقلين، ج5، ص528.
8- اُصول الكافي، ج5، ص150، الحديث 1.
9- المصدر السابق، الحديث3.
10- ولمزيد من الإطلاع.. راجع وسائل الشيعة، ج12، ص290، أبواب التجارة، الباب 7.