الآيات 26 - 29

﴿فَأَيْنَ تُذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلعَـلَمِينَ (27) لِمَن شَآءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللّهُ رَبُّ العَـلَمِينَ (29)﴾

التفسير:

إلى اين... أيُّها الغافلون؟!

أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام اللّه... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين، وقام بتبليغه النّبي الصادق الأمين (ص) الذي لم يبخل في البلاغ في شيء، وما تهاون عن تعليم الناس فيما اُرسل به.

فيما توبخ الآيات أعلاه اُولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي: (فأين تذهبون).

لم تركتم طريق الهداية؟!

أوَ مِن العقل أنْ تصدّوا عن النور وتتجهوا صوب الظلام؟!

ألاَ ترحمون أنفسكم؟!

وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم وسلامتكم؟!...

وتأتي الآية الثّانية لتقول: (إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين)

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أنْ يستيقظ مَن تملكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أنْ تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة: (لمن شاء منكم أنْ يستقيم).

فالآية الاُولى: (إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين) قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية: (لمن شاء منكم أن يستقيم) عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامّة التمكين، خاصّة الإستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللّه ونعمه.

والآية الثّانية من سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) تدخل في سياق هذا المعنى.

وعلى أيّة حال، فالآية تؤكّد مرّة اُخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه، سواء كا طريق حقّ، أمْ طريق باطل.

ويفهم من "يستقيم"، أنّ طريق السعادة الحقّة، طريق مستقيم، وما دونه لا يكون كذلك، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال... لسار الإنسان على هذه السبل المنجيَة، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق اللّه عزّوجلّ، وجاءت الآية التالية ولتقول: (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين) والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة "أمر بين الأمرين" التي أشار إليها الإمام الصادق (ع)، فمن جهة، إنّ الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة اُخرى، يلزم تلك الإرادة وذلك القرارة ما يشاء اللّه ربّ العالمين... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه، ولولا إرادته ذلك لما كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار، ولكنْ... كما روي عن الإمام الصادق (ع): "لا جبر ولا تفويض الأمر بين الامرين"، فكلّ ما للإنسان من: عقل، فهم قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار، كلّ ذلك من اللّه عزّوجلّ، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه، ولو شاء اللّه لتوقف كلّ شيء وانتهى، وهو من جهة اُخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

ويفهم من "ربّ العالمين"، إنّ المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان وكلّ الموجودات، فاللّه لا يريد أنْ يضل أو يذنب أحد من الخلق، بل يريد أن يسعد كلّ الخلق في جوار رحمته ورضوانه، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفّق والمعين لكلّ من يريد أن يسلك طريق التكامل.

والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة، إنّهم تمسّكوا بالآية الثّانية دون الاُولى وربّما كان المفوضة قد تمسّكوا بالآية الاُولى مفصولة عن الآية الثانية لها... والفصل فيما بين آيات القرآن كثيراً ما يوقع في هاوية الضلال والخروج بنتائج خاطئة باطلة، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كلٌّ مترابط، لا آيات فرادى.

وقيل: إنّه لمّا نزل قوله تعالى: (لمن يشاء منكم أنْ يستقيم)، قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا إنْ شئنا استقمنا وإنْ شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: (وما تشاؤون إلاّ أنْ يشاء اللّه ربّ العالمين) (1).

اللّهمّ! لا توفيق إلاّ منك، فوفقنا للسير على طريق رضوانك...

اللّهمّ! لقد رغبنا في سلوك طريقك ومنهجك، فاجعل مشيئتك أن تأخذ بأيدينا في هذا الطريق...

اللّهمّ! إنّا نخاف أهوال الحشر والقيامة، لخلو صحائف أعمالنا من الحسنات، فعاملنا بعفوك ولطفك، ولا تشدد علينا بعدلك...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة التّكوير


1- روح المعاني، ج30، ص62; وفي روح البيان، ج10، ص354.