الآيات 10 - 14

﴿وَإذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ (11) وَإذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإذَا الْجَنَّةُ اُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ (14)﴾

التفسير:

يوم يرى الانسان ما قدّم!!

فبعد مرحلة الفناء العام، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم، لتقام محكمة العدل الالهي.

ومن خطوط هذه المرحلة: (وإذا الصحف نشرت).

"الصحف": جمع (صحيفة) بمعنى المبسوط من الشيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي يكتب عليها.

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكلٌّ سيعرف جزاءه بعد الإطلاع على صحيفة أعماله، كما تشير إلى ذلك الآية (14) من سورة الإسراء: (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سروراً، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثمّ يضيف: (وإذا السماء كشطت).

"كشطت": من (الكشط) على وزن (كشف)، بمعنى قلع جلد الناقة، كما قال الراغب في مفرداته، وأمّا في (لسان العرب) فتعني: كشف الغطاء عن الشيء، و"تكشط السحاب" أيْ، تقطع وتفرّق.

وما يراد من "كشطت" في الآية، هو: رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي، التي تمنع رؤية الناس للملائكه أو الجنّة والنّار، فيرى الإنسان حينها عالم الوجود شاخص أمام ناظريه شخوصاً حقيقياً، وكما تصور الآيات التالية ذلك، حيث أنّ الجنّة ستقترب من الإنسان ليرى نعيمها، وتزداد النّار سعيراً لاهبة.

نعم، أو ليس يوم القيامة (يوم البروز)... فلا الحقائق ستخفى، ولا يكون للحجب أثراً.

فالآية وما سبقها وسيلحقا إذنْ (حسب التفسير أعلاه) قد تحدثت عن المرحلة الثّانية للقيامة - مرحلة ما بعد البعث - فما ذكره كثير من المفسرين، من كون الآية تشير إلى انهيار وتحطم السماوات، والمتعلق بحوادث المرحلة الاُولى للقيامة (مرحلة الفناء العام)، يبدو أنّه بعيد، لإنّه لا ينسجم مع معنى "كشطت" من جهة اُخرى.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية: (وإذا الجحيم سعّرت).

فجهنّم موجودة في كل الأوقات، ولكّن حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها، فالآية على سياق الآية (49) من سورة التوبة: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، وكما أنّ جهنّم موجودة فالجنّة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة (1).

ويبّين البيان القرآني بذات السياق السابق: (وإذا الجنّة أُزلفت).

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (90) من سورة الشعراء: (وأُزلفت الجنّة للمتقين).

"أُزلفت": من (زلف) على وزن (حرف)... و"زلفى": على وزن (كُبرى)، بمعنى القرب، فيمكن أنْ يكون المراد هو: القرب المكاني، أو القرب الزماني، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات، ويمكن أيضاً أنْ تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معان.

فستكون الجنّة قريبة من المؤمنين من حيث: المكان، زمان دخولها، من حيث تسهيل أسبابها لهم.

وقد تجلت مكانة المؤمنين عند اللّه حينما صرحّت الآية باقتراب الجنّة من المؤمنين، ولم تقل: اقترب المؤمنين من الجنّة.

وكما قلنا آنفاً... فالجنّة والنّار موجودتان في كلّ وقت، ولكنْ مع حلول يوم القيامة تكون الجنّة والنّار أشدّ اشتعالا من أي وقت مضى.

وتأتي الآية الأخيرة (من الآيات المبحوثة) لتتم ما جاء قبلها من جمل، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (12) آية: (علمت نفس ما أحضرت).

فستحضر أعمال الإنسان كاملة، ولا من محيص من العلم والإطلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات، منها... الآية (49) من سورة الكهف: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)، والآية الأخيرة من سورة الزلزال: (فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومَن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره).

فالآية إذَنْ... تبيّن مسألة (تجسم الأعمال) في يوم القيامة، فأعمالنا التي نتصورها قد انتهت وفنت في عالمنا الدنيوي، هي ليست كذلك، فكل عمل قمنا به سيتجسم بصورة ما، ليحضر أمام أعيننا في عرصة المحشر الرهبية.

بحثان

1 - تناسق الآيات

تمّت الإشارة إلى (12) حادثة من حوادث يوم القيامة، فالحوادث الستة الأولى قد ارتبطت بمرحلة الفناء العام للعالم (المرحلة الأولى)، والستة الثّانية قد اختصت بمرحلة عودة الحياة بعد الموت من جديد.

وكان الحديث في الستة الأولى عن: ذهاب ضوء الشمس، تساقط وتناثر النجوم، إزالة الجبال عن واقعها وتحولها إلى غبار منتشر، إضرام البحارُ ناراً، نسيان المال والثروة، اجتماع الحيوانات الوحشية في مكان واحد...

فيما كان الحديث في لستة الثانية عن: حشر الناس فرادى، سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت من أجله!، ونشر الصحف، ارتفاع الحجب عن صفحة السماء، اشتعال أوار جهنّم واقترب الجنّة، واطلاع الإنسان على كل أعماله مجسدة.

ورغم قصر جمل الآيات إلاّ أنّها حملت الكثير من المعاني وبأُسلوب مثير يعمل على تحريك ضمير الإنسان ويدفعه للتوغل في أعماق التأمل و الفكر...وقد جسّمت الآيات نهاية العالم بتصوير رائع، بحيث قربت إلى الأذهان كيفية حدوث القيامة، كل ذلك في عبارات وجيزة وبألفاظ سهلة، وكلُّ هذا يعطي مدى قوّة بيان وبلاغة القرآن الكريم... فما أجمل وأعذب القرآنية، و ما أغزرها بالمعاني و الإشارات!!

2 - هل ستنطفيء المنظومة الشمسية، وهل ستخمد النجوم؟؟

قبل البدء بالإجابة لابدّ من بيان بعض ما توصل إليه العلم الحديث بخصوص المنظومة الشمسية:

إنّ الشمس (التي تعتبر مركز المنظومة الشمسية) متوسطة الحجم نسبةً إلى بقية النجوم السابحة في السماء، ولكنّها نسبة إلى الأرض كبيرة جدّاً، حيث قدّر العلماء حجمها بما يعادل (000،300،1) مرة بقدر حجم الأرض، ونظراً لبعدها عن الإرض، (حيث قدرت بـ (000،000،150) كيلومتر)، فتُرى لناظرينا بهذا الحجم المحدود...ويكفينا أن نتلمس عظمة حجم الشمس، فيما لو فرضنا بإدخال الكرة الأرضية مع القمر في باطن الشمس وبذات الفاصلة الموجودة حالياً ما بين الأرض والقمر، ففي هذه الحال.

سوف لا يواجه القمر أية صعوبة بالدوران حول الأرض من دون أن يخرج من سطح الشمس!

أمّا درجة حرارة سطح الشمس فتبلغ (000،6) درجة مئوية، وتصل درجة حرارة أعماق الشمس إلى عدّة ملايين درجة مئوية!!

وإذا ما أردنا أن نزن الشمس بالأطنان، فسيواجهنا العدد (اثنان) وبيمينه (27) صفراً، أي (ملياري مليار مليار طن) !

وتصل ألسنة نيران سطح الشمس في بعض الأوقات إلى ارتفاع (000،60) كيلومتر، وبإمكان تلك الألسنة أنْ تلف الأرض وما عليها و بكل يسر، لأنّ قطر الكرة الأرضية لا يتجاوز ألـ (000،12) كيلومتر.

ومصدر حرارة ونور الشمس الخارجة منها، على خلاف ما يتصوره البعض من كونهما ناشئين من احتراق شي ما، وكما يقول مؤلف كتاب (ولادة وموت الشمس)، أن لو كانت الشمس، عبارة عن جرم من الفحم الحجري الخالص، لما استمرت لهذا اليوم، ولو قدّرنا بدأ احتراقها منذ عصر أول فراعنة مصر، لكان في يومنا المعاش قد احتراق بأكمله ونفد، وإذا ما قيل بأيّة مادة أُخرى غير الفحم الحجري، فلا تغيّر من النتيجة الحاصلة.

وحقيقة الأمر، أنّ مفهوم الإحتراق لا ينطبق على الشمس، بقدر ما ينطبق عليها مفهوم الطاقة الحاصلة من التجزئة الذريّة، ولمّا كانت الطاقة عظيمة جدّاً،

فذرات الشمس في حالة تجزئة وتبديل إلى طاقة وبشكل مستمر.

واستناداً إلى حسابات العلماء: فإنّ كلَّ ثانية تمرّ من عمر الشمس ينتقص من وزنها ما يقارب "اربعة ملايين طناً"! أمّا حجمها فلم يمسسه أيّ شي من التغيير رغم مرور السنين المديدة على عمرها!

وينبغي التسليم أنّ خاتمة الشمس لابدّ منها، وعجلة الزمن الدائبة ستوصل إلى ذلك الحدث، ولابدّ من مجي ذلك اليوم الذي سيشهد اضمحلال حجم هذا الجرم الكبير وإخماد نوره، كما هو حال وشأن بقية النجوم (2).

فالعلم الحديث إذَنْ، قد أثبت الحقائق العلمية التي طرحها قبل ألف وأربعمائة سنة إلاّ دليل قاطع على ما نقول.


1- آل عمران، الآية 133; و الحديد، الآية 21... الخ.

2- اقتبس هذا الكلام من ثلاثة كتب: (ولادة و موت الشمس)، (النجوم من دون تلسكوب) و(بناء الشمس).