الآيات 1 - 9
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَىِّ ذَنْب قُتِلَتْ (9)﴾
التفسير:
يوم تطوى الكائنات فيه!
نواجه في بداية السورة، إشارات قصيرة، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة - بداية يوم القيامة ـ، فتنقل الإنسان في فكره وأحاسيسه إلى مفاجآت ذلك اليوم الرهيب، قد تحدثت تلك الإشارات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.
وأول مشهد عرضته عدسة العرض القرآني، هو: (إذا الشمس كورت).
"كورت": من (التكوير)، بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس)، وأُخذ هذا المعنى من كتب اللغة والتفسير والمختلفة.
واستعملت كذلك بمعنى: (الرمي) أو (إطفاء شيء)... والمعنيان - كما يبدو - مستمدان من المعنى الأصلي.
وعلى أيّة حال، فالمقصود هو: خمود نور الشمس وذهابه، وتغيّر نظام تكوينها.
وكما بات معلوماً... فالشمس في وضعها الحالي، عبارة عن كرة مشتعلة، على هيئة غازية ملتهبة، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة، قد يصل إرتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات!
ولو قُدّرَ وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها، فإنّها تستحيل فوراً إلى رماد وكتلة من الغازات!!
ولكن... عند حلول وقت نهاية العالم، والإقتراب من يوم القيامة، سيخمد ذلك اللهب المروع، وستجمع تلك الشعلات، فيطفأ نور الشمس، ويصغر حجمها... وهو ما اُشير إليه بالتكوير.
وجاء في (لسان العرب): (كورت الشمس: جمع ضوءها ولف كما تلف العمامة).
وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة، بأنّ الشمس تسير تدريجياً نحو الظلام والإنطفاء.
ويأتي المشهد الثّاني: (وإذا النجوم انكدرت).
"انكدرت": من (الإنكدار)، بمعنى السقوط والتناثر، واشتق من (الكدورة)، وهي السواد والظلام.
ويمكن جمع المعنيين في الآية، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء، كما تشير إلى ذلك الآية (رقم 2) من سورة الإنفطار: (وإذا الكواكب انتثرت)، والآية (رقم 8) من سورة المرسلات: (وإذا النجوم طمست).
والمشهد الثّالث: (وإذا الجبال سيّرت).
وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال، إبتداء من السير والحركة وانتهاء بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية (20) من سورة النبأ).
وثمّ يأتي درو المشهد الرّابع: (وإذا العشار عطّلت).
"العشار": جمع (عشراء)، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، فأضحت على أبواب الولادة، بعدما امتلأت أثداؤها باللبن.
وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.
"عطلت): تركت لا راعي لها.
فهول ووحشة القيامة، سينسي الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.
وقال العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: وقيل: العشار، السحاب تعطل فلا تمطر.
أي: إنّ الغيوم ستظهر في ذلك اليوم، ولكن لا تمطر (ويمكن أن يكون الغيوم ناشئة من الغازات والمختلفة، أو تكون غيوماً ذرية، أو طبقات من الغبار الناتج من تدمير الجبال... وكلّ ذلك لا تمطر).
ويضيف الطبرسي قائلاً: قال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة.
وثمّة علاقة بين ما ذهب إلى الشيخ الطريحي في (مجمع البحرين) بقوله: العشار: بمعنى الناقة الحامل ثمّ اُطلق على كلّ حامل، وبين إطلاقها في الآية.
فلا غيوم غالباً ما تكون محملة بالأمطار، ولكن الغيوم التي ستظهر في السماء على أعتاب ذلك اليوم سوف لا تكون حاملة بالمطر - فتأمل.
وقيل: "العشار": هي البيوت أو الأراضي الزراعية التي ستتعطل بذلك اليوم، وستخلو من الناس والزراعة.
وأشهر ما فسّرت به الآية هو التفسير الأوّل.
وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش: (وإذا الوحوش حشرت).
فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الأُخرى خوفاً من الافتراس والبطش، ستراها وقد جمعت في محفل واحد، وكلّ منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيطاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها!!
ونقول: إذا اضمحلت كلّ خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!
ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ الآية تشير إلى حشر الحيوانات الوحشية في عرصة يوم القيامة لمحاسبتها على قدر ما تحمل من إدراك، ويستدلون بالآية (38) من سورة الأنعام على ذلك، والتي تقول: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ اُمم أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء ثمّ إلى ربّهم يحشرون) (1).
وما يمكننا قوله: إنّ الآية تتحدث عن علائم نهاية الدنيا المهولة، وبداية عالم الآخرة، وعليه... فالتّفسير الأوّل أنسب.
وتُصَوّرُ البحار في المشهد السادس: (وإذا البحار سجّرت).
"سجّرت": من (التسجير)، بمعنى إضرام النّار.
وإذا خالج القدماء التعجب والإستغراب لهذا الوصف القرآني، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين، القابلات للإشتعال بسرعة، ولا يستبعد أنْ يوضع الماء - في إرهاصات يوم القيامة - تحت ضغط شديد ممّا يؤدي إلى تجزئة وتفكيك عناصره، وعندما سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النّار.
وقيل: "سجّرت": بمعنى (امتلاءت)، كما يقال للتنور الممتليء بالنّار (مسجّر)، وعلى ضوء هذا المعنى، يمكننا أنْ نتصور امتلاء البحار ممّا سيتسبب من الزلازل الحادثة وتدمير الجبال في إرهاصات يوم القيامة، أو ستمتليء بما يتساقط من أحجار وصخور سماوية، فيفيض ماؤها على اليابسة ليغرق كلّ شيء.
ويأتي درو المشهد السابع: (وإذا النفوس زوجت).
فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا... فالصالحون مع الصالحين، والمسيؤون مع المسيئين، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال، فإذا ما جاور المؤمن مشركاً، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك، فهو يوم الفصل الحق.
وثمّة احتمالات اُخرى، منها:
ردّ الأرواح إلى أجسادها...
زواج الصالحين بالحور العين...
قرن الضالين بالشياطين...
لحوق الإنسان بحميمه، بعد أنْ فرّق الموت بينهما...
قرن الإنسان بأعماله.
والتفسير الأوّل أقرب، بدلالة الآيات (7 - 11) من سورة الواقعة: (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون).
فبعد أنْ تحدثت الآيات السابقة لهذه الآية عن ستة تحولات، كمقدمات يوم القيامة، تأتي الآية أعلاه لتخبر عن اُولى خطوات يوم القيامة، المتمثلة بالتحاق كلّ شخص بقرينه.
ونصل إلى المشهد الثّامن: (وإذا الموءودة سئلت بأىّ ذنب قتلت).
"المؤءودة": من (الوأد) على وزن (وعد)، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.
وقيل: الوأد بمعنى الثقل، وتوسع معناه (لما ذُكِر)، لما فيه من دفن البنات في القبر وإلقاء التراب عليهن.
وأطلق الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) مفهوم الوأد، ليشمل كّل قطع رحم وقطع مودّة... حينما سُئل الإمام الباقر (ع) عن معنى الآية، قال:"مَنْ قتل في مودّتنا".(2)
وفي رواية اُخرى: إنّ الدليل على ذلك هو آية القربى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) (3).
ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.
ملاحظات
1 - وأد البنات
تعتبر عادة (الوأد) - والتي أشار إليها القرآن الكريم مراراً - من أقبح جرائم وعادات عصر جاهلية ما قبل الإسلام.
وإذا كان البعض قد حصرها في قبيلة (كندة) أو بعض القبائل الصغيرة المتناثرة هنا وهناك دون بقية القبائل العربية الاُخرى، فالمسلم به إنّها كانت من الشيوع بحيث تناول القرآن الكريم ذكرها لأكثر من مرّة وبتأكيد شديد.
ولكنْ، حتى مع افتراضنا لندرة هذا العمل القبيح، فإنّه من القباحة والشناعة ما يدعونا لبحثه ودراسته...
يقول المفسّرون: كانت المرأة في الجاهلية إذا ما حان وقت ولادتها، حفرت حفرة وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته، وقال شاعرهم مفتخراً:
سميتها إذا ولدت (تموت) والقبر صهر ضامن ذميت (4)
وثمّة أسباب كثيرة وراء هذه الجريمة البشعة، منها:
إحتقار المجتمع الجاهلي للمرأة...وجود الفقر الشديد في تلك الحقبة الزمنية، والمرأة كانت مستهلكة غير منتجة، إضافة لعدم اشتراكها في الغارات التي تقوم بها القبيلة لتوفير لقمة العيش.
الخوف من وقع النساء أسرى في شباك الأعداء، نتيجة للمعارك التي كانت دائرة على الدوام بين القبائل، لأنّ في هكذا أسر جرح للشرف وإذلال شديد.
وتجمعت هذه الأسباب (بالإضافة لأسباب اُخرى) فأدت إلى ظهور عادة (الوأد) الوحشية بين أفراد القبائل في ذلك العصر القابع تحت ظلام الجهل المقيت.
وممّا يؤسف له، إنّ جاهلية القرون الأخيرة قد كررت تلك الممارسات البشعة وبصور اُخرى، حتى وصل ببعض الدول تدّعي التمدن والتحضر لأنّ تقنن وتقرّ (حرية) إشقاط الجنين! نعم، فالحال واحدة... فإذا كان أهل الجاهلية الاُولى يقتلون البنت، فمتمدني هذا العصر يقتلون الأطفال وهم في بطون اُمهاتهم (بنتاً أو ابناً) !!
وللحصول على تفاصيل هذا الموضوع، راجع ذيل الآية (59) من سورة النحل.
2 - أهمية المرأة في الإسلام
بإمكان أنْ نستشف مدى اهتمام الإسلام بالمرأة وبالدم الإنساني (خصوصاً دم الأبرياء)، من خلال اهتمام الباري جلّ شأنه بمسألة وأد البنات، ويكفي القرآن الكريم دلالة على أنْ قدّم ذكر بحث مسألة الوأد في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة على مسألة نشر صحف الأعمال وبقية المسائل الاُخرى، لما فيها من قباحة وشناعة في حق المرأة كإنسانة لها حقّ الحياة كما للرجل من حقّ.
3 - مَنْ الإنسان... المؤءودة أمْ الوائد؟
لو أمعنا النظر في اُسلوب كلام الآية، لرأينا أنّ السؤال سيوجه يوم القيامة إلى الموءودة دون الرائد على الذنب الذي قتلت من أجله، وكأنّ القاتل لا قيمة له حتى يسأل عن قباحة جريمته، بالإضافة إلى الإكتفاء بشهادة المؤءودة لإثبات جريمة الوائد عليه... فالموءودة تعامل يوم القيامة باعتبارها إنسان محترم له حقوقه، والرائد مهمل مهان.
1- بحثنا موضوع حشر وحساب الحيوانات في هذا التفسير ذيل الآية (38) من سورة الأنعام، فراجع.
2- تفسير البرهان، ج4، ص432، ح 11.
3- المصدر السابق، ح7.
4- مجمع البيان، ج10، ص444.