الآيات 1 - 10

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَآءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)﴾

سبب النّزول:

تبيّن الآيات المباركة عتاب اللّه تعالى بشكل إجمالي، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الإجتماعية على طلب الحق... أمّا مَن هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، ما يلي:

إنّها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه (ص) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّه، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.

وكان رسول اللّه (ص) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: "مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي"، ويقول له: "هل لك من حاجة".

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين (1).

والرأي الثّاني في شأن نزولها: ما روي عن الإمام الصادق (ع): "إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه" (2).

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريم (ص)، ولكنّ الآيات (8 - 10) في السورة يمكن أن تكون قرينة، حيث تقول: (وأمّا من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى)، والنّبي (ص) خير مَنْ ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل، بأنّ ما في آية (عبس وتولّى) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبي (ص)، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة، وهو ليس من أخلاقه (ص) الكريمة، بدلالة قول اللّه تعالى في الآية (رقم 4) من سورة (ن)، والتي نزلت قبل سورة عبس، حيث وصفه الباري: (وإنّك لعلى خلق عظيم).

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي (ص) والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:

أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه (ص) بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.

ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ "عبد اللّه بن اُم مكتوم" لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي (ص) مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي (ص)، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي (ص) صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه...

ومن مكارم خلقه (ص) - كما ورد في الرواية المذكورة - إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانيةً: إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول، هو نزولها في شخص النّبي (ص)، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

التفسير:

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:

يقول القرآن أولاً: (عبس وتولّى).

لماذا؟: (أن جاءه الأعمى).

(وما يدريك لعله يزّكّى)، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

(أو يذكر فتنفعه الذكرى)، فإن لم يحصل على التقوى،فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فتنفعه ذلك (3).

ويستمر العتاب...: (أمّا من استغنى)، مَنْ اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

(فأنت له تصدّى)، تتوجّه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر، كما أشارت لهذا الآيتان (6 و 7) من سورة العلق: (... إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).(4)

(وما عليك ألاّ تزّكّى)، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ اُولئك الأغنياء المتحجرين.

وتأتي العتاب مرّة اُخرى تأكيداً: (وأمّا مَنْ جاءك يسعى)، في طلب الهداية...(وهو يخشى) (5)، فخشيته من اللّه هي التي دفعته للوصول إليك، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها، ويعمل على مقتضاها.

(فأنت عنه تلهى) (6).

ويشير التعبير بـ "أنت" إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة، ومهما كان يسيراً، فهو ليس من شأن من مثلك، وإنّ كان هدفك هداية الآخرين، فبلحاظ الأولويات، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال: فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّ (ص) أو إلى غيره، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ اللّه لا يرضى بإنذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل: السند المخلص للإسلام دائماً... الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر: "وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم" (7).


1- تفسير مجمع البيان، ج10، ص437.

2- المصدر السابق.

3- والفرق بين الآية والتي قبلها، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل: إنّ الفرق بين الآيتين، هو أنّ الاُولى تشير إلى التطهير من المعاصي، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر اللّه عزّوجلّ. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

4- يقول الراغب في مفرداته: (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد، ويقول في (تصدّى): إنّها من (الصدى)، أي الصوت الراجع من الجبل.

5- يراد بالخشية هنا: الخوف من اللّه تعالى، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولاً لمعرفته جلّ اسمه، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ... وجوب معرفة اللّه بدليل دفع الضرر المحتمل.

واحتمل الفخر الرازي: يقصد بالخشية، الخوف من الكفّار، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّاً.

6- "التلهي": من (اللهو)، ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والإستغفال بغيره، ليقف في قبال "التصّدي".

7- نهج البلاغة، الرسالة 53.