الآيات 21 - 30
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِّلطَّـغِينَ مَأباً (22) لَّـبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً (23) لاَّيَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شِرَاباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَآءً وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُواْ بِأَيَـتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَىء أَحْصَْينَـهُ كِتَـباً (29) فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلاَّ عَذَاباً (30)﴾
التفسير:
جهنّم... المرصاد الرهيب:
بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسماً من حوادث يوم القيامة، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين، فيقول: (إنّ جهنم كانت مرصاداً).
وهي: (للطاغين مآباً) (1).
وأنّهم: (لابثين فيها أحقاباً).
"المرصاد": اسم مكان يختفي فيه للمراقبة، ويقول الراغب في مفرداته: "المرصد" موضع الرصد، والمرصاد نحوه، لكن يقال للمكان الذي أُختص بالترصد.
وقيل: إنّه صيغة مبالغة، ويطلق على الذي يكمن كثراً للرصد، مثل "المعمار" الذي يكثر من البناء والعمران.
والمعنى الأوّل أشهر وأنسب، ولكن... مَن سيقوم بعملية الرصد في جهنّم؟
قيل: هم وملائكة العذاب بدلالة الآية (71) من سورة مريم التي تحكي عن مرور جميع الناس صالحهم وطالحهم من جانب جهنّم أو من فوقها: (وإن منكم إلاّ واردها كان على ربّك حتماً مقصياً) وخلال ذلك المشهد تقوم ملائكة العذاب برصد أهل النّار والتقاتهم من بين الخلق!
وأمّا لو قلنا في تفسير الآية بأنّها (صيغة المبالغة) فسيكون جهنّم هي المرصاد للطاغين، وتقوم بعملية جذب أهل النّار إليها حال مرور الخلق واقترابهم منها.
وعلى أية حال، فلا يستطيع أيّ من الطاغين من تخطي ذلك المعبر المحتوم، فإمّا أن تخطفه ملائكة العذاب أو تجذبه جهنّم.
"الماب": هو محل الرجوع، ويأتي أحياناً بمعنى المنزل والمقر، وهو المقصود في هذه الآية.
و"الأحقاب": جمع (حقب) على وزن (قفل)، بمعنى برهة زمانية غير معينة، وقد قدرها بعض بثمانين عاماً، وقيل سبعين، وقيل: أربعين عاماً.
وعلى أيّ من التقادير، فثمّة مدّة معينة للبقاء في جهنّم، وهو ما يتعارض مع ما جاء في آيات اُخر والتي تصرح بخلود أهل النّار في جهنّم، ولذلك سعى المفسّرون لإيجاد ما يوضح هذا الموضوع.
المعروف بين المفسّرين: إنّ المقصود بـ "الأحقاب" في الآية هو تلك الفترات الزمانية الطويلة التي تتعاقب فيما بينها، المتسلسة بلا نهاية، فكلما تنتهي فترة تحل محلها اُخرى، وهكذا.
وقد جاء في إحدى الرّوايات... إنّ الآية جاءت في المذنبين من أهل الجنّة، الذين يقضون فترة في جهنّم يتطهّرون فيها ثمّ يدخلون الجنّة، وليست واردة في الكافرين المخلدين في النّار (2).
وتشير الآيات - بعد ذلك - إلى جانب صغير من عذاب جهنّم الأليم، بالقول: (لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً).
(إلاّ حميماً وغسّاقاً)، إلاّ ظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (43) من سورة الواقعة: (وظلّ من يحموم).
"الحميم": هو الماء الحار جدّاً، و"الغسّاق": هو ما يقطر من جلود أهل النّار من الصديد والقيح، وفسّرها بعضهم بالسوائل ذات الروائح الكريهة.
في حين أنّ أهل الجنّة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة، كما جاء في الآية (21) من سورة الدهر: (وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً)، حتى الأواني التي يشربون بها وعلى ما لها من الرونق فهي مختومة بالمسك، كما أشارت لذلك الآية (26) من سورة المطففين: (ختامه مسك)... فانظر لعقبى الدارين!
ولكن، لِمَ هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية: إنّما هو: (جزاءً وفاقاً) (3).
ولِمَ لا يكون كذلك... وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى، فجزاهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.
وكما قلنا مراراً، إنّ الآيات القرآنية حينما تشير إلى عقوبات يوم القيامة، إنّما تطرحها كجزاء لما اقترفت أيدي الناس بظلمهم، كما نقرأ في الآية (رقم 7) من سورة التحريم: (يا أيّها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنّكما تجزون ما كنتم تعلمون)، (حين تجسمت أعمالكم وحضرت أمامكم).
ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول: (إنّهم كانوا لا يرجون حساباً).
وبعبارة اُخرى: إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان، فيكون الطغيان سبباً لذلك الجزاء الأليم.
"لا يرجون": من "الرجاء" ويأتي بمعنى "الأمل" وكذلك بمعنى "عدم الخوف"، ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف في حال الأمل والإنتظار، وإلاّ لَم يخف... فبين الأمرين تلازم، ولهذا فالذين ليس لديهم أمل ورجاء لا يحسون بخوف أيضاً.
"إنّ" في "إنّهم": للتأكيد.
و"كانوا": للماضي المستمر.
و"حساباً": نكرة جاءت بعد نفي لتعطي معنى العموم... وكل هذا البيان جاء ليبيّن أنّهم ما كانوا ينتظرون حساباً مطلقاً، وما كانوا يشعرون لاخوف من ذلك! وبعبارة اُخرى: إنّهم تناسوا حساباً يوم القيامة بالكلية: ولم يفرزوا له مكاناً في كلّ حياتهم! ولا جرم أنّ عاقبة أمرهم سيؤول إلى العذاب الأليم لما اقترفوه من جرائم عظمى وكبائر الذنوب.
ومباشرة يضيف القرآن القول: (وكذّبوا بآياتنا كذّاباً) (4).
فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات اللّه تكذيباً شديداً، وأنكروها إنكاراً قاطعاً ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم الغاربة.
وبما أنّ معنى "آياتنا" من الوسع بحيث يشمل كلّ آيات التوحيد والنبوّة والتكوين والتشريع ومعجزات الأنبياء والأحكام السنن، فعملية تكذيب كلّ هذه الأدلة الإلهية في عالم التكوين والتشريع، إنّما تستحق أشدّ العقوبات المخبر عنها في القرآن الكريم.
ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي، فيقول: (وكلّ شيء أحصيناه كتاباً) (5).
فلا تظنوا أنّ شيئاً من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.
فما أكثر الآيات القرآنية التي تحكي عن حقيقة ضبط إحصاء كلّ ما يبدر من الإنسان، سواء كان من الأعمال الصغيرة أم الكبيرة، سرية أم علنية، بل ويخضع لذلك حتى عقائد ونيّات المرء.
وفي هذا المجال، يقول القرآن: (وكل شيء فعلوه في الزّبر وكلّ صغير وكبير مستطر) (6)... وفي موضع آخر يقول: (إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون) (7)... وفي مكان آخر يقول: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) (8).
ولذلك يصرخ المجرمون بالقول: (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها) (9)، حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كلّ ما فعلوه في الحياة الدنيا.
وممّا لا شك فيه، أنّ إدراك حقيقة الآيات الرّبانية بكامل القلب، سوف يدفع الإنسان لأنّ يكون دقيقاً في جميع أعماله، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب، ومن العوامل المهمّة والمؤثرة في العملية التربوية.
ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر: ويهدد القرآن بنبرات غاضبة اُولئك المجرمين، ويقول: (فذوقوا فلن نزيدكم إلاّ عداباً).
فصرخاتكم بـ "ياوليتنا" وطلبكم العودة إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدتم، لن ينفعكم، وكل ما ستنالونه هو الزيادة في العذاب ولا مِن مغيث.
وهذا هو جزاء اُولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى اللّه والإيمان والتقوى، بقولهم: (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين) (10).
وهذا هو جزاء الذين ينفرون من سماع واستماع ما تتلى عليهم من آيات اللّه، كما قال تعالى: (وما يزيدهم إلاّ نفوراً) (11).
وأخيراً... فالعذاب الأليم جزاء كلّ مَن لا يتورع عن اقتراف الذنوب، ولا يسعى صوب الأعمال الصالحة.
حتى روي عن النّبي (ص) أنّه قال: "هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النّار" (12).
كيف لا... وهي التي تحمل بين ثناياها الغضب الإلهي، وتسدّ كلّ أبواب الأمل للخلاص من جهنّم، ولا تعد أهل النّار إلاّ زيادة في العذاب.
1- يوجد محذوف في الآية، والتقدير: (كانت للطاغين مآباً).
2- تفسير نور الثقلين، ج5، ص494، ح23 و 26.
3- "جزاء": مفعول مطلق لفعل محذوف تظهره قرينة الكلام، "وفاقاً": صفة الجزاء، والتقدير: يجازيهم جزاءً ذا وفاق!
4- "كِذّاباً" - بكسر الكاف ـ: إحدى صيغ المصدر من باب التفعيل، بمعنى التكذيب، وقال بعض أهل اللغة: إنّه مصدر ثلاثي مجرّد معادل لكذب.. وعلى أية حال، فهو: مفعول مطلق لكذبوا، وجاء للتأكيد.
5- "كلّ": مفعول به لفعل مستتر يدل عليه الفعل "أحصيناه". و"كتاباً": مفعول مطلق لأحصينا، لأنّه بمعنى كتبنا، واعتبره البعض: حالاً.
6- القمر، 52 و 53.
7- يونس، 21.
8- سورة يس، 12.
9- الكهف، 49.
10- الشعراء، 136.
11- الإسراء، 41.
12- تفسير الكشّاف، ج4، ص690; وتفسير روح البيان، ج10، ص307; وتفسير الصافي في ذيل الآية المذكورة.