الآيات 41 - 50
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـل وَعُيُون (41) وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيـئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْـمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأىِّ حَدِيث بَعْدَه يُؤْمِنُونَ (50)﴾
التفسير:
إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأيّ حديث يؤمنون؟!
من المعلوم في منهج القرآن أنّه يمزج الإنذار بالبشارة، والتهديد بالترغيب، وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة أكثر بقرينة المقابلة، وعلى أساس هذه السنّة المتّبعة في القرآن، فإنّ هذه الآيات وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة، أشارت بصورة مختصرة وبليغة إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى: (إنّ المتقين في ظلال وعيون).
والحال أنّ المجرمين كما علم من الآيات السابقة هم في ظل الشرر وحرقة الدخان المميت.
(ظلال): جمع "ظل" سواء كان ظلاً كظل الأشجار في النهار، أو الظل الحاصل من ظلام الليل، والحال أنّ "الفيء" يقال فقط للظل الحاصل من النور، كظل الأشجار المقابل للشمس.
ثمّ يضيف: (وفواكه ممّا يشتهون).
من الواضح أنّ ذكر "الفواكه" و"الظلال" و"العيون" إشارة إلى جانب من المواهب الإلهية العظيمة المعطاة إلى أهل الجنان... جانب يمكن بيانه ورسمه بلسان أهل الدنيا، وأمّا ما لا يمكن حصره بالبيان، ولم يخطر ببال أهل الدنيا فهو أعلى من هذه المراتب وأفضل.
والظريف أنّهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه، كما هو الحال في الآية التالية إذ يقول لهم: (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) هذه الجملة سواء كانت خطاباً من الله بشكل مباشر، أو بوسيلة الملائكة تقال لهم مشفوعة باللطف والمحبّة التي هي غذاء لروحهم.
وعبارة (بما كنتم تعملون) إشارة إلى أنّ هذه المواهب لا تعطى لأيّ كان من دون عمل، ولا يمكن حصولها بالإِدعاء والتخيل والتصور، وإنّما يمكن نيلها والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.
(هنيء): على وزن (صبيح) ويقول الراغب في مفرداته: هو كل شيء ليست فيه مشقة ولا يستتبعه قلق، ولذا يقال للماء والغذاء السائغ (هنيء)، ويطلق أحياناً على الحياة السعيدة.
وهذا إشارة إلى أنّ فواكه الجنّة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا وأشربتها التي تترك أحياناً آثاراً سيئة في البدن، أو تترك أعراضاً غير مُرْضية.
وهناك اختلاف بين المفسّرين في أنّ هذه الآية تبيان لإباحة الإستفادة من هذه النعم، أم أنّه أمرٌ من الله تعالى؟ ولكن يجب أن يلاحظ أنّ مثل هذه الأوامر التي تقال عند الإستقبال هو نوع من الطلب للشخص المضيّف، وأنّها تقال لتعظيم الضيوف واحترامهم، والمضيّف يحب أن يُؤكل طعامه أكثر لإكرام ضيفه أكثر.
ثمّ تؤكد الآية الأُخرى على مسألة النعم وأنّها لا تمنح اعتباطاً فيضيف: (إنا كذلك نجزي المحسنين).
الظريف أنّ في الآية الأُولى تأكيد على "التقوى"، وفي الآية التي تليها تأكيد على "العمل"، وأمّا في هذه الآية فقد أكّد على "الإحسان".
(التقوى): هي اتّقاء واجتناب الذنوب والفساد والشرك والكفر، و"الإحسان" هو أداء كل عمل حسن، و"العمل" يتعلق بالأعمال الصالحة، ليتضح أنّ منهج النعم الإلهية مرتبط بهذه الجماعة فقط، وليس بمن يدعي الإيمان الكاذب، والملوثين بأنواع الفساد، وإن كانوا في الظاهر من أهل الإيمان.
وفي نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية: (ويل يومئذ للمكذبين) الويل لمن يُحْرَم من كل هذه النعم والألطاف، إذ أنّ عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل من نيران الجحيم المحرقة!
وبما أنّ إحدى عوامل إنكار المعاد الإهتمام بلذّات الدنيا الزائلة والميل إلى الحرية المطلقة للإنتفاع بهذه اللذّات، ويتوجه بالحديث في الآية التالية إلى المجرمين بلحن تهديدي فيقول: كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيّام القلائل، ولكن اعلموا أن العذاب الإلهي ينتظركم، لأنّكم مجرمون: (كلوا وتمتعوا قليلاً إنّكم مجرمون).
وقد يكون التعبير بـ (قليلاً) إشارة إلى مدّة عمر الإنسان القصيرة في الدنيا، وكذا المواهب الدنيوية التافهة مقابل النعم الأُخروية اللامتناهية، إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الخطاب هو للمجرمين في الآخرة، ولكن الإلتفات إلى أنّ الآخرة ليس فيها متع من مواهب الحياة للمجرمين ليتمتعوا بها، فينبغي القول بأنّ هذا الخطاب موجّه لهم في الدنيا.
في الحقيقة أنّ المتقين يستضافون في الآخرة بكامل الإحترام والتقدير، ويخاطبون بهذه الجملة المليئة باللطف والحنان: (كلوا واشربوا هنيئاً) وأمّا عبيد الدنيا فإنّهم يخاطبون بجملة تهديدية في هذه الدنيا: (كلوا وتمتعوا قليلاً).
يقول للمتقين: (بما كنتم تعملون) ويقول لهؤلاء أيضاً: (إنّكم مجرمون) (1).
وعلى كل حال فإنّها تشير إلى أنّ مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان وذنبه، الناشيء من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.
ثمّ يكرر التهديد بجملة: (ويل يومئذ للمكذّبين) هم أُولئك الذين غُرّروا وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب الله.
وأشار في الآية الأُخرى إلى عامل آخر من عوامل الإنحراف والتعاسة والتلوث، وقال: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون).
قال كثير من المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في "ثقيف" حين أمرهم النّبي (ص) بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنّ ذلك سبّة علينا، فقال (ص): "لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود" (2).
إنّهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب، بل إنّ روح الغرور والكِبَر هذه كانت منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم، فما كانوا يسلّمون لله، ولا لأوامر النّبي (ص)، ولا يقرّون بحقوق الناس، ولا يتواضعون لله تعالى وللناس.
في الحقيقة أنّ هذين العاملين (الغرور وحب الشهوة) من أهم عوامل الإجرام والذنب والكفر والظلم والطغيان.
واحتمل البعض أنّ خطاب (اركعوا) يقال لهم في القيامة، ولكن هذا الإحتمال بعيد، خصوصاً بعد التمعن في الآيات السابقة والآتية.
ثمّ يعيد هذه الآية للمرّة العاشرة والأخيرة إذ يقول: (ويل يومئذ للمكذبين).
وفي آخر آية من آيات البحث - وهي آخر آية من السورة - يأتي السياق ممزوجاً بالعتاب ومليئاً بالملائمة، فجاءت الآية بصيغة الإستفهام التعجبي، إذ يقول (فبأي حديث بعده يؤمنون) إنّ من لم يؤمن بالقرآن الذي لو أُنزل على الجبال لتصدعت وارتجفت، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي، ولا يقبل بأي منطق عقلائي، وهذ يدّل على روح العناد والتعصب.
ملاحظة:
كما أشرنا سابقاً في بداية السورة إلى تكرار الآية: (ويل يومئذ للمكذبين) عشر مرّات، وهذا تأكيد لواقع مهم، وشبيه ذلك كثيرٌ في حديث العظماء والبلغاء، إذ أنّ القسم الذي يعتنون به ويؤكّدون عليه يظهر مكرراً في نثرهم وأشعارهم.
ولكن بعض المفسّرين يرى أنّ لكل آية من هذه الآيات العشر معنى خاصّاً، وتشير كل منها إلى تكذيب مواضيع سابقة لها، ولذا فإنّها لا تعد مكررة.
ونختم هذه السورة بجملة من تفسير روح البيان، يقول: إنّ هذه السورة نزلت على النّبي (ص) في غار قرب مسجد (خيف) بمنى وهو معروف، وأنا شخصياً قد زرت ذلك الغار.
اللّهم! جنّبنا أبداً التلوث بتكذيب آياتك.
ربّنا! جنّبنا الغرور والهوى فإنّهما رأس كلّ خطيئة.
إلهنا! احشرنا مع المتّقين الذين ينالون رضاك وضيافتك في ذلك اليوم.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة المرسلات
1- النون في (فكيدون) مكسورة وجاءت الكسرة محل ياء المتكلم، وأصلها (فكيدوني) فحذفت الياء وبقيت الكسرة لتدل على الياء، وضمير المتكلم يعود إلى ذات الله المقدّسة طبقاً لظاهر الآيات، واحتمال رجوعه إلى شخص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعيد جدّاً.
2- لهذه الآية حذف وتقديره على قول مجمع البيان: (كلوا وتمتعوا قليلاً فإن الموت كائن لا محالة) ولكن يبدو أن التقدير الأنسب هو (كلوا وتمتعوا قليلاً وانتظروا العذاب فإنّكم مجرمون).