الآيات 16 - 28
﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الاَْوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاَْخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْـمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآء مَّهِين (20) فَجَعَلْنَـهُ فِى قَرَار مَّكِين (21) إِلَى قَدَر مَّعْلُوم (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَـدِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَآءً وَأَمْوَتاً (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَسِىَ شَـمِخَـت وَأَسْقَيْنَـكُم مَّآءً فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)﴾
التفسير:
جزاءِ المكذبين بالمعاد
هذه الآيات أيضاً تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق; فتأخذ بأيديهم أوّلاً إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكاً للأقوام السابقين، فيقول تعالى: (ألم نهلك الأولين).
إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة.
وليس على صفحات التاريخ فحسب، أقوام - كقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون - عوقبوا جزاءاً لأعمالهم فبعض أبيدوا بالطوفان وآخرون بالصاعقة، وجماعة بقوة الرياح، وقوم بالزلزلة وأحجار السماء.
(ثم نُتبعُهُم الآخرين) لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!
ولذا يضيف تعالى في الآية الأُخرى: (كذلك نفعل بالمجرمين).
هذه الآية في الحقيقة هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الأُمم الأُولى ويستتبعه هلاك الأُمم الأُخرى، لأنّ العذاب الإِلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الإِنتقام الشخصي.
بل إِنّه تابع لأصل الإِستحقاق ومقتضى الحكمة.
وقال البعض: إنّ المراد من (الأولين) هم الأُمم المتوغلة في الماضي البعيد كقوم نوح وعاد ثمود، و (الآخرين) اللاحقون بهم من الأُمم الغابرة أمثال قوم لوط وقوم فرعون ولكنّنا نلاحظ أنّ (نتبعهم) جاءت بصيغة فعل مضارع، والحال أنّ عبارة (ألم نهلك) وردت بصيغة الماضي، فيتضح من ذلك أنّ (الأولين) هم الأُمم السابقة الذين هلكوا بالعذاب الإلهي و (الآخرين) هم الكفار المعاصرون للنّبي (صلى الله عليه وآله) أو الذين يأتون إلى الوجود فيما بعد، ويتلوثون بالجرائم والمعاصي والظلم والفساد.
ثمّ يضيف مستنتجاً: (ويل يومئذ للمكذبين).
(يومئذ): إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة، والتكرار هو لتأكيد المطلب، وما احتمله البعض من أنّ هذه الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي، والآية المشابهة لها والتي وردت سابقاً ناظرة إلى العذاب الأُخروي يبدو بعيداً جدّاً.
ثمّ يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة أُخرى، فيقول تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين) أي تافه وحقير (فجعلناه في قرار مكين) (1).
مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.
ثمّ يضيف تعالى: أنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة: (إلى قدر معلوم).
مدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.
ثمّ يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأن الله تعالى نعم القادر: (فقدرناه فنعم القادرون) (2) (3) وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أول سورة الحج: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبيّن لكم ونقرّ في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثمّ نخرجكم طفلاً ثمّ لتبلغوا أشدكم....ذلك بأنّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وأنّه على كل شيء قدير).
ثمّ يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله: (ويل يومئذ للكذبين) الويل لأُولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثمّ ينكرونها، يقول أمير المؤمنين (ع):
"أيّها المخلوق السوي، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ومضاعف الأستار، بُدئت من سلالة من طين، ووضعت في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم، تمور في بطن أُمّك جنيناً لا تحير دعاء، ولا تسمع نداءً، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لإِجترار الغذاء من ثدي أُمّك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟!
" (4).
ثمّ يقول تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتاً (5)، أحياءً وأمواتاً) (6).
"كفات": - على وزن كتاب - و (كفت) - على وزن كشف - هو جمع وضم الشيء للآخر، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور "كفات" لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.
والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر: إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيء لهم جميع ما يحتاجونه، وتضم أمواتهم في بطنها، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.
نعم، إنّ الأرض هي كالأُم التي تجمع أولادها حولها وتضمهم تحت أجنحتها، وتغذيهم، وتلبسهم، وتسكنهم، وتقضي جميع حوائجهم، وتحفظ أمواتهم في قلبها أيضاً، وتمتصهم وتزيل مساويء آثارهم.
وفسّر بعضهم "الكفات" بالطيران السريع، والآية تشير إلى حركة الأرض حول الشمس والحركات الأُخرى والتي كانت غير مكتشفة زمن نزول القرآن.
ولكن بملاحظة الآية الأُخرى أي (أحياءً وأمواتاً) يتضح أنّ التفسير الأوّل أنسب، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين علي (ع) عند رجوعه من صفين ووصوله قرب الكوفة، حيث قال وهو ينظر إلى مقبرة خارج الكوفة: "هذه كفات الأموات" أي مساكنهم.
ثم نظر إلى منازل الكوفة فقال: "هذه كفات الأحياء" ثم تلا هذه الآيات: (ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً) (7).
ثمّ يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض، فيضيف: (وجعلنا فيها رواسي شامخات) (8) هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء، واتصلت أُصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي، ومن جهة أُخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة، ولهذا تكون الجبال باعثة على الإستقرار لأهل الأرض.
وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الأُخرى للجبال فيضيف تعالى: (وأسقيناكم ماء فراتاً) ماءاً سائغاً لكم وباعثاً للحياة، ولحيواناتكم ولبساتينكم.
صحيح أنّ كل ماء مستساغ هو من المطر، ولكن للجبال الدور الأهم في الإيفاء بهذا الغرض، فإنّ كثيراً من العيون والقنوات هي من الجبال، ومصدر الأنهار العظيمة هي من الجليد المتراكم على قمم الجبال، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان، إنّ قمم الجبال تكون باردة على الدوام لبعدها عن سطح الأرض، ولهذا فأنّها تحافظ على الجليد المتراكم عليها لآجال طويلة حتى تتأثر بشعاع الشمس فيتحول إلى ماء ويتدفق بالتالي على شكل أنهار وجداول.
ثمّ يقول في نهاية هذا القسم: (ويل يومئذ للمكذبين).
أُولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها بأعينهم، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها، ثمّ ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.
1- ورد مزيد من التوضيح في باب معنى (ويل) واختلافه مع (ويس) و(ريح) في ذيل الآية (60) من سورة الذاريات.
2- (قرار): هو محل الإستقرار و(مكين) يعني محفوظ، وأصله من المكانة المشتقة من التمكن (وتأتي المكانة أحياناً بمعنى المنزلة).
3- للآية حذف تقديره (فنعم القادرون نحن)أي أن المحذوف هو المخصوص بالمدح.
4- قال بعض المفسّرين إن معنى الآية هكذا: (إنا قدرنا النطفة بمقاييس ضرورية ومقادير مختلفة، وخصوصيات في جسم الإنسان وروحه، فنعم القادرون) ولكن هذا المعنى يبدو بعيداً لأن متن القرآن والقراءة المعروفة له غير مشددة ولذا يبدوا بعيداً وإن قال بعض إن المادة الثلاثية المجردة وردت بمعنى التقدير، ولكن في الاستعمالات العادّية لا تستعمل كلمة (قادر) بهذا المعنى.
5- نهج البلاغة، الخطبة 163.
6- "كفاتاً": مفعول ثاني لـ (جعلنا) وهو مصدر قد جاء بصيغة اسم فاعل.
7- "أحياءً وأمواتاً": حال لضمير مفعول محذوف تقديره (كفاتاً لكم أحياءً أمواتاً).
8- تفسير البرهان، ج 4، ص 417 (نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم).