الآيات 1 - 15

﴿وَالْمُرْسَلَـتِ عُرْفاً (1) فَالْعَـصِفَـتِ عَصْفاً (2) وَالنَّـشِرَتِ نَشْراً (3) فَالْفَـرِقَـتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَـتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لاَِيِّ يَوْم أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَآ أَدْرَكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15)﴾

التفسير:

الوعود الإلهية وجزاء المكذبين:

ذكرت في صدر السورة ابتداءً خمسة أيمان، وذلك في خمس آيات.

الحديث وافر في تفسير معانيها:

يقول تعالى: (والمرسلات عرفاً) (1) أي قسماً بالتي تُرسل تباعاً.

(فالعاصفات عصفاً) التي تُسرع في حركتها كالعاصفة.

(والناشرات نشراً)... التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

(فالفارقات فرقاً)... التي تفرق وتفصل.

(فالملقيات ذكراً) التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

(عذراً أو نذراً) (2) إمّا لاتمام الحجة أو للانذار.

والآن لِنَرَ ما هو مفهوم هذه الأيمان المغلقة التي تخبر عن مسائل مهمّة، ويوجد هنا ثلاث تفاسير مهمّة:

1 - إنّ هذه الأيمان الخمسة إشارة إلى الرياح والعواصف التي لها الأثر البالغ في كثير من مسائل الطبيعة في العالم، فيصبح معنى الآيات حينئذ: أُقسم بالريح المتوالية الهبوب.

وأُقسم بالأعاصير السريعة.

وأُقسم بالناشرات السحاب التي تنزل المطر إلى الأراضي الميتة.

وأُقسم بالرياح التي تفرّق السحاب بعد هطول المطر.

وأُقسم بالرياح المذكّرة بالله بهذه المعطيات النافعة.

(وقيل أنّ (فالعاصفات عصفاً) إشارة إلى أعاصير العذاب النقيضة للرياح الباعثة للحياة والتي تعتبر بدورها سبباً للتذكر واليقظة).

2 - إنّ هذه الأيمان إشارة إلى (ملائكة السماء): أي أُقسم بالملائكة المرسلة تباعاً إلى الأنبياء (والملائكة المرسلين بالمناهج المعروفة)، وأُقسم بأولئك المسرعين كالأعصار لتنفيذ مهامهم، والذين ينشرون ما أنزل الله على الأنبياء، وأولئك الذين يفصلون بعملهم هذا الحق عن الباطل، والذين يلقون ذكر الحق وأوامر الله على الأنبياء.

3 - القسم الأوّل والثّاني ناظر إلى الرياح والأعاصير، والقسم الثّالث والرّابع والخامس يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة، ثمّ فصل الحق عن الباطل، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

وما يمكن أن يكون شاهداً على التفسير الثّالث هو:

أوّلاً: فصل المجموعتين من الأقسام التي في الآيات (بالواو)، والحال أنّ البقية عطفت بالفاء وهي علامة ارتباطها.

ثانياً: إنّ هذه الأيمان كما سوف نرى واردة لموضوع الآية السابعة، أي أحقيّة البعث والمعاد وواقعيته، ونعلم أنّ تغيّراً عظيماً يحصل في الدنيا عند البعث حيث العواصف الشديدة والزلازل والحوادث المهيبة من جهة، ثمّ تشكيل محكمة العدل الإلهية من جهة أُخرى وعندها تنشر الملائكة صحائف الأعمال وتفصل بين المؤمنين والكافرين، وتلقي بالحكم الإلهي في هذا المجال.

وطبقاً لهذا التّفسير سوف يتناسب القسم مع المقسم له، ولهذا فإنّ التّفسير الأخير أفضل.

"الذكر" في جملة: (فالملقيات ذكراً) أمّا أن يكون بمعنى العلوم الملقاة على الأنبياء، أو الآيات النازلة عليهم، ونعلم أنّ القرآن جاء التعبير عنه بالذكر كما في الآية (رقم 6) من سورة الحجر: (وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر إنّك لمجنون).

كلمة "الملقيات" بصيغة الجمع مع أنّ ملك الوحي - أي جبرئيل (ع) - واحد ليس إلاّ لما يستفاد من الرّوايات أنّ جماعات كثيرة من الملائكة كانوا يصاحبون جبرئيل (ع) عند نزول الآيات القرآنية، كقوله تعالى في الآية (15) من سورة عبس: (بأيدي سفرة).

والآن لابدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى، فتقول: (إنّما توعدون لواقع).

إنّ البعث والنشور، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلها حق لا ريب فيه.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الوعود الإلهية، وتشمل وعود الصالحين والطالحين، في الدنيا كانت أو في الآخرة، ولكنّ الآيات التالية توحي أنّ المراد هو الوعد بالقيامة (3).

وهنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء، فإنّ ظرافة الموضوع تكمن في أنّ مواضيع الأيمان السابقة تُعتبر بحدّ ذاتها دلائل للمعاد، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا نموذج ممّا يحدث في المعاد، ثمّ نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل ممّا لا يكون الهدف منه واضحاً ومفهوماً إلاّ بوجود المعاد، وهذا يُشير إلى أنّ واقعة البعث أمر حتمي.

وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (23) من سورة الذاريات إذ يقول الله تعالى: (فوربّ السماء إنّه لحق) القسم بالربّ يعتبر إشارة إلى أنّ ربوبية الربّ وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.

ثمّ ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود، فيقول: إذا تحقّق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفيء وتمحى (فإذا النجوم طمست).

(وإذا السماء فرجت) أي انشقت.

(وإذا الجبال نسفت) أي زالت وانقلعت من مكانها.

(طمست): من مادة (طمس) - على وزن شمس - وهو محو وزوال آثار الشيء، ومن الممكن أن تشير العبارة هنا إلى محو نور النجوم أو اختفائها، ولكن التفسير الأول أنسب، كقوله في الآية (رقم 2) من سورة التكوير: (وإذا النجوم انكدرت).

نسفت: من مادة (نسف) - على وزن حذف - وفي الأصل، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب، ويعني هنا تفتيت الجبال ثمّ نسفها في الريح، ونستفيد من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله.

وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام، ولا يمكن وصف تلك الحوادث بأي بيان لما فيها من الرعب والعجب، وهل يوصف حادث تنقلع فيه الجبال وتندك لتتحول إلى غبار وتكون كالصوف المنفوش؟!

وكما يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الحوادث عظيمة للغاية بحيث أنّ أشد الزلازل المهيبة في الدنيا بالنسبة لها كفرقعة صغيرة يفرقعها الأطفال للّعب بها مقابل أقوى قنبلة ذرية.

وعلى أي حال فإنّ هذه التعابير القرآنية تشير إلى الإختلاف الكبير بين أنظمة الآخرة وأنظمة الدنيا.

ثمّ أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث، فيضيف: وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم: (وإذا الرسل أقِّتَتْ) (4) وهو كقوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين).(5)

ثمّ يضيف تعالى: (لأي يوم أُجِّلَتْ) (6)، أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟ ثم يقول: (ليوم الفصل) يوم فصل الحق عن الباطل، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين، والأبرار عن الأشرار، ويوم حكم الله المطلق على الجميع، وقد جاء هذا الحوار لبيان عظمة ذلك اليوم، ويا لهُ من تعبير بليغ عميق لذلك اليوم،... إنّه "يوم الفصل"!!.

ثمّ يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضاً، فيقول تعالى: (وما أدراك ما يوم الفصل)

إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلعاً بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم، فكيف بسائر الناس: وقد قلنا مراراً إنّنا لا نستطيع الإحاطة والعلم بجميع أسرار القيامة العظيمة فنحن سجناء قفص الدنيا، وما نتصوره عن ذلك اليوم ليس إلاّ شبحاً وخيالاً يحكي عن مجريات الآخرة.

وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديداً شديداً وقال: (ويل يومئذ للمكذبين).

ويل: قيل هو الهلاك، وقيل المراد به العذاب المتنوع، وقيل هو واد في جهنّم مليء بالعذاب، وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم (7).

المراد بالمكذبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة، ونعلم أنّ من لا يؤمن بيوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي وبالحساب والجزاء يسهل عليه أن يرتكب الذنوب والظلم والفساد، بعكس الإيمان الراسخ بذلك اليوم فإنّه يهب الإنسان التقوى والإحساس بالمسؤولية.

ملاحظات

1 - محتوى هذه الأيمان

في الآيات السابقة ذكر أولاً بالرياح والأعاصير لما لها من الدور الهام في عالم الخلقة، فإنّها تحرك السحاب لتقودها إلى الأراضي اليابسة والميتة، وتصريفها بعد نزول الأمطار، وتنقل بذور النباتات من مكان إلى آخر وبذلك تنمو الغابات والمراتع، وتلقّح الرياح أيضاً كثيراً من الأزهار والثمار، وتنقل الحرارة والبرودة من مناطق الأرض المختلفة إلى نقاط أُخرى فتساعد بذلك على تعديل المناخ، وتأخذ الهواء الطازج المليء بالأوكسجين من المزارع والصحاري إلى المدن، ثم ترسل الهواء الملوث إلى الصحاري والبحار لغرض التصفية.

ثم إنّها تثير مياه البحار وتجعلها أمواجاً متلاطمة، وتدخل الأوكسجين إلى الموجودات المائية الحيّة، نعم إنّ للرياح والنسيم خدمات عظيمة وحياتية في الكون.

القسم الآخر من الأيمان يتحدث عن منهج نزول الوحي بوسيلة الملائكة، فإنّ في عالم المعنى أيضاً شبهاً مع النسيم في عالم المادة، الملائكة يهبطون بكلمات الوحي على قلوب أنبياء الله تعالى كما تنزل قطرات المطر المباركة فتنمو أزهار وثمار المعارف الإلهية في القلوب.

وعلى هذا الأساس فإنّ الله تعالى قد أقسم بمربّي عالم المادة وبمربّي عالم المعنى، والظريف أنّ جميع هذه الأقسام هو من أجل بيان حقيقة ذلك اليوم الذي تثمر فيه جميع المساعي وهو يوم القيامة، يوم الفصل.


1- الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة حديث 10.

2- "عرفاً": بمعنى متتابعاً، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر، وفُسر أحياناً بالعمل الحسن والمعروف.

3- "عذراً أو نذراً": محله من الإعراب النصب على أنّه (مفعول لأجله) وقيل (حال).

4- العطف بالفاء أيضاً يقوي هذا المعنى.

5- (أقّتت) أصلها (وقِّتت) من مادة (وقت) إذ أن الواو المضمومة بدلت إلى الهمزة، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى، وهذا واضح إذ لا يُعين لهم وقت بل يتعيّن لعملهم، أي لشهادتهم على الأُمم، ولذا قيل إن في الآية حذفاً.

6- الأعراف، الآية 6.

7- طبقاً لهذا التفسير فإن الضمير في (أجلت) يعود إلى شهادة الأنبياء والرسل على الأُمم، وهو ما يستفاد منه في الآية السابقة، وقيل إنّه يعود إلى جميع الأُمور المرتبطة بالأنبياء وما أعطوا من الأخبار بالثواب والعقاب وحوادث القيامة وغيرها، وقيل: إنّها إشارة إلى جميع الأُمور التي وردت في الآيات السابقة كظلام النجوم وغيرها، ولكن من الواضح أن التّفسير الأوّل أنسب، لأنّ مرجع الضمير في الآية متصل بذلك.