الآيات 27 - 31
﴿إِنَّ هَـؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَّحْنُ خَلَقْنَـهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـلَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَـذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّـلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31)﴾
التفسير:
تحذير مع بيان السبيل!!
رأينا في الآيات السابقة تحذيراً للنبي (ص) لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين، والتاريخ يشهد أنّهم كانوا يستعينون لسذاجتهم بالمال والجاه والنساء للنفوذ في إرادة النبي (صلى الله عليه وآله) وعزمه على ادامة الدعوة.
الآيات اعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت: (إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً).
لا تتعدى أُفق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة، وتمثل هذه اللذائذ المادّية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة.
والعجيب أنّهم قاسوا روح النّبي (صلى الله عليه وآله) العظيمة بهذا المقياس! ولم ينتبه هؤلاء الغافلين إلى اليوم الثقيل الذي ينتظرهم، ثقيل من حيث العقوبات، ثقيل من حيث المحاسبة، وثقيل من حيث طول الزمان وشدّة الفضيحة.
وقد جاء التعبير بـ (وراءهم) مع أنّ المفروض أن يقال (أمامهم) لأنّهم نسوا ذلك اليوم، وكأنّهم تركوه وراءهم، ولكن على قول بعض المفسّرين أنّ كلمة (وراء) تستعمل أحياناً بمعنى "خلف" وأحياناً بمعنى "أمام" (1).
الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوتهم وقدرتهم، إذ أنّ الله الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء، فيقول تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً) (2).
(أسر) على وزن (عصر) وأصلهُ الربط بالقيد، ولهذا سمي الأسير بهذا الاسم لربطه وشدّه، وهنا إشارة إلى استحكام خلقة الإنسان بحيث يقدر على مزاولة مختلف النشاطات والفعاليات المهمّة.
هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة، وهي الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الانسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان واحد مهيأ للقيام بأية فعالية، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.
وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات الله المقدّسة، عنهم، وعن طاعتهم وإيمانهم، ليعلموا أنّ الاصرار على إيمانهم في الحقيقة هو من رحمة الله بهم.
وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (133) من سورة الأنعام اِذ يقول: (وربّك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء).
ثمّ أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملاً للحياة السعيدة، فيقول تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً) (3).
إن علينا إيضاح الطريق، لا اجباركم على اختيار الطريق، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم، وهذا في الحقيقة تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله: (إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).
وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف: (وما تشاءُون إلاّ أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) (4).
وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين)، إذ يقول من جهة: (إنا هديناه السبيل) فعليكم أن تختاروا ما تريدون، ويضيف من جهة أُخرى: (وما تشاءُون إلا أن يشاء الله) أي ليس لكم لإستقلال الكامل، بل إن قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.
من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين الأمرين، أو بعبارة أُخرى: إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة الإلهية، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة، ومن جهة أُخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى.
والخلاصة، أنّ هذه الآية تدعو الانسان إلى أن لا يتوهّم أنّه مستغن عن رعاية الله وتوفيقه.
وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه.
ويتضح هنا أنّ تمسك بعض المفسّرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة، فيقول: واعلم أنّ هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر! (5) نعم، إذا فَصَلنا هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محلّ لهذا الوهم.
ولكن بالإلتفات إلى ما ورد من تأثير الإختيار في آية، وفي آية أُخرى تأثير المشيئة الإلهية، يتّضح بصورة جيدة مفهوم (الأمر بين الأمرين).
وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن الإختيار المطلق فقط، وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر فقط، ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية، والحال أنّ الفهم الصحيح للكلام الإلهي (أو أي كلام آخر) يستوجب ضمّ الآيات جنباً إلى جنب، وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة.
ولعلّ آخر الآية: (إن الله كان عليماً حكيماً).
يشير حكمه إلى هذا المعنى، لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل، وإلاّ فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملاً، بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على أُناس وفرض الأعمال الشريرة على أُناس آخرين، ثمّ أنّه يثيب الجماعة الأُولى ويعاقب الثانية.
ثمّ تشير الآية الأُخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين في جملة قصيرة غنية المحتوى إذ تقول الآية: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً) والظريف أنّ صدر الآية يقول: (يدخل من يشاء في رحمته) ويقول ذيلها: (والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً) وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الانسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلاّ من حكيم.
والعجيب أنّ مع هذه القرينة فهناك أفراد كالفخر الرازي ممن يتخذ صدر هذه الآية دليلاً على مسألة الجبر من دون الإلتفات إلى آخر الآية التي يتحدث عن حرية الإرادة في أعمال الظالمين (6).
اللهم! ادخلنا في رحمتك ونجّنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.
ربّنا! إنّك أوضحت السبيل إليك.
وقد عزمنا على سلوكه، فأعنّا على ذلك.
ربّنا! إنّنا إن لم نكن من الأبرار ولكنّا نحبّهم، فاحشرنا معهم.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة الدهر
1- مجمع البيان، ج 10، ص 413.
2- جاء في تفسير (روح البيان) أن كلمة (وراء) إذا أُضيفت إلى الفاعل فإنّها تعني الخلف، وإذا أُضيفت إلى المفعول فإنّها بمعنى "الأمام" روح البيان، ج 8، ص 439.
3- في هذه الآية حذف، وفي التقدير (بدلناهم أمثالهم) كلمة (تبديل) غالباً ما تأخذ مفعولين وهنا الضمير (هم) مفعول أوّل و(أمثالهم) مفعول ثان.
4- قيل أن في الآية حذف، والتقدير: (فمن شاء اتخذ إلى رضى ربّه سبيلاً) ولكن الحق عدم احتياج الآية للتقدير، لأن جميع طرق التكامل تنتهي إلى الله تعالى.
5- جمع من المفسرين قالوا أن جملة (إن يشاء الله) محلها من الإعراب منصوبة على الظرفية فيكون المعنى: (ما تشاءُون إلا وقت مشيئة الله) ويحتمل أن التقدير هنا (شيئاً) فيكون المعنى: (وما تشاءُون إلا شيئاً يشاء الله).
6- تفسير الفخر الرازي ج 30 ص 262.