الآيات 11 - 19

﴿وَذَرْنِى وَالمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَآ أَنْكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّة وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبَاً مَّهِيلاً (14) إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شـهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُوْلَ فَأَخَذْنَـهُ أَخْذَاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) الْسَّمَآءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَـذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)﴾

التفسير:

ذرني والمكذبين المستكبرين:

أشارت في الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة، وعدائهم وإيذائهم للنّبي (ص)، أمّا في هذه الآيات فإنّ اللّه تعالى يهددهم بالعذاب الأليم، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه، ويواسي المؤمنين الأوائل، فيقول تعالى شأنه: (وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً).

أي دعني وايّاهم، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلاً.

لتتمّ الحجّة عليهم ولتظهر ماهيتهم الحقيقية، ويُثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحلّ عليهم غضبي.

ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين، ووجهوا ضرباتهم القوية لأعداء الرسالة، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب، وبالتالي كان العذاب الإلهي ينتظرهم في البرزخ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النّار في يوم القيامة.

والتعبير بـ "أُولي النعمة" إشارة الغرور والغفلة الناجمة من كثرة الأموال والثروة المادية، ولهذا يذكرهم القران في النصف الأوّل من المخالفين على طول تاريخ الأنبياء، وفي الحقيقة أنّ هذه الآية مشابهة للآية (34) من سورة سبأ حيث يقول تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما اُرسلتم به كافرون) في حين أنّ هؤلاء لابدّ أن يلبوا دعوة الحق قبل غيرهم ليشكروا اللّه على ما أنعم عليهم بهذا الوسيلة.

ثمّ يقول مصرّحاً: (إنّ لدينا أنكالاً وجحيماً).

"الأنكال": جمع (نكل)، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال، وأصلها من نكول الضعف والعجز، أي أنّ الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.

نعم، لقد تنعموا في الدينا وأخذوا حريتهم المطلقة، ولهذا لابدّ لهم من القيود والنّار.

وكذا يضيف: (وطعاماً ذا غصّة وعذاباً أليماً).

هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في الدنيا الحرام، حيث العذاب الأليم، ولمّا تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير المشروعة في هذه الدينا، والطعام الموصوف بالغصّة هو بحدّ ذاته عذاب أليم، ثمّ يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على إنفراد، وهذا يشير إلى أنّ أبعاد العذاب الاُخروي الذي لا يعلم شدّته وعظمته إلاّ اللّه تعالى، ولهذا ورد في حديث أنّ النّبي (ص) سمع قارئاً يقرأ هذه فصعق.(1)

وجاء في حديث آخر أنّ النّبي (ص) هو الذي كان يتلو الآية فصعق (2)، وكيف لا يكون هذا الطعام ذا غصّة في حين الآية (رقم 6) من سورة الغاشية تقول: (ليس لهم طعام إلاّ من ضريع).

وكذا نقرأ في الآية (43) و (44) من سورة الدخان: (إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم).

ثمّ يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول: (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً).

"الكثيب": يراد به الرمل المتراكم، و"المهيل" من هيل - على وزن كيل - هو صبّ شيء ناعم كالرمل على شيء، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم و ما لا يستقر، والمعنى أنّ الجبال تتلاشى بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم، وإذا ما ديست بالأقدام فإنّها تطمس فيها.

وللقرآن المجيد تعابير مختلفة عن مصير الجبال في يوم القيامة، وتحكي عن إنعدامها وتبديلها بالأتربة الناعمة (أوردنا شرحاً مفصلاً حول المراحل المختلفة لانعدام الجبال والتعابير المختلفة للقرآن في هذا الباب في ذيل الآية 105 من سورة طه).

ثمّ يقارن بين بعثة النّبي (ص) ومخالفة الأشداء العرب، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى: (انّا أرسلنا إليك رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً).

إنّ هدف النّبي (ص) هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف موسى (ع) هداية فرعون وأتباعه والإشراف على أعمالهم.

لم يكن جيش فرعون مانعاً من العذاب الإلهي، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سبباً لرفع هذا العذاب، ففي النهاية أُغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعدداً من فرعون وأتباعه وأضعف؟!

وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

"الوبيل": من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلام (ص) ويحذرهم بقوله: (فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً) (3) (4).

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيباً، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة، وهناك من يقول: إنّ الإنسان يقع أحياناً في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاُخرى يبيّن وصفاً أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف: (السماء منفطرٌ به كان وعده مفعولاً).

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عندما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(5)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى: (إنّ هذه تذكرة).

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلاً، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى اللّه بالآجبار والإكراه، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ اللّه تعالى هدى الإنسان إلى النجدين، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة، والمخاطب هو النّبي (ص) والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين، ولهذا فإنّ المراد من "السبيل" في الآية هو صلاة الليل، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى اللّه تعالى، كما ذكرت في الآية (26) من سورة الدهر بعد أن اُشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً).

ويقول بعد فاصلة قصيرة: (إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلاً)

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها (6).

وبالطبع هذا التّفسير مناسب، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

ملاحظة:

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم: النكال، الجحيم، الطعام ذوالغصّة، والعذاب الأليم، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانياً.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن اللّه تعالى.


1- نور الثقلين، ج5، ص450، ح27.

2- مجمع البيان، ج10، ص379.

3- مجمع البيان، ج10، ص380.

4- روح المعاني، ج29، ص107.

5- يوماً مفعول به لتتقون، و"تتقون" ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والإثنان بعيدان.

6- "شيب" جمع (أشيب) ويراد به المسن، وهي من أصل مادة شيب - على وزن عيب - والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.