الآيات 26 - 28
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَتَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَـفِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِولِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّـلِمِينَ إلاَّ تَبَاراً (28)﴾
التفسير:
على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا:
هذه الآيات تشير إلى استمرار نوح (ع) في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى: (وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً).
دعا نوح (ع) بهذا الدعاء عندما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والنعاء في دعوته إيّاهمه، فلم يؤمن إلاّ قليل منهم.
والتّعبير بـ "على الأرض" يشير إلى أنّ دعوة نوح (ع) كانت تشمل العالم، وكذا مجيء الطوفان والعذاب بعده.
"ديار": على وزن سيار، من أصل دار، وتعني من سكن الدّار، وهذه اللفظة تأتي عادة في موارد النفي المطلق كقول: ما في الدار ديّار، أي ليس في الدار أحد.(1)
ثمّ يستدل نوح (ع) للعنه القوم فيقول: (إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجر كفّاراً)، وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح (ع) لم يكن ناتجاً عن الغضب والإنتقام والحقد، بل إنّه على أساس منطقي، وأنّ نوحاً (ع) ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الاُمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم.
بل إنّ دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاماً من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني.
ولكن كيف عرف نوح (ع) أنّهم لن يؤمنوا أبداً وأنّهم كانوا يضللون من كان على البسيطة ويلدون أولاداً فجرة وكفّاراً.
قال البعض: إنّ ذلك ممّا أعطاه اللّه تعالى من الغيب، واحتُمل أنّه أخذ ذلك عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول اللّه تعالى: (وأوحى إلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من آمن).(2)
(3)
ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي والحسابات المتعارفة، لأنّ القوم الذين بلّغ فيهم نوح (ع) تسعمائة وخمسين عاماً بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم، ثمّ إنّ الغالبية منهم كانوا من الكفار والأثرياء وهذا ممّا كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس، مثل أُولئك لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً ويمكن الجمع بين هذه الإحتمالات الثّلاثة.
"الفاجر": يراد به من يرتكب ذنباً قبيحاً وشنيعاً.
"كفّار": المبالغ في الكفر.
والإختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية، والآخر بالجوانب العقائدية.
ويستفاد من هذه الآيات أنّ العذاب الإلهي إنّما ينزل بمقتضى الحكمة، فمن يكن فاسداً ومضللاً ولأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية، فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصّاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل طوفان نوح (ع) تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأُمة الشريرة، وبما أنّ هذا القانون الإلهي لا يختصّ بزمان ومكان معينين، فإنّ العذاب الإلهي لابدّ أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفّار، لأنّها سنّة إلهية وليس فيها من تبعيض.
ويمكن أن يكون المراد بـ (يضلّوا عبادك) الجماعة القليله المؤمنة التي كانت مع نوح (ع)، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون بالطواغيت.
ثمّ يدعو نوح (ع)، لنفسه ولمن آمن به فيقول: (ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً).(4)
طلب المغفرة هذا من نوح (ع) كأنّه يريد أن يقول إنني وإن دعوة قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا اُبريء نفسي أمام اللّه تعالى.
هذا هو حال أولياء اللّه، فإنّهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كلّ ما يلاقونه من محن ومصاعب، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر، وليس كالذين يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل صغير ما يمنون به على اللّه تعالى، ويطلب نوح (ع) المغفرة لعدّة أشخاص وهم:
الأوّل: لنفسه، لئلا يكون قد مرّ على بعض الأُمور المهمّة مروراً سريعاً، ولم يعتن بها.
الثّاني: لوالديه، وذلك تقديراً لما تحمّلاه من متاعب ومشقّة.
الثّالث: لمن آمن به، وإن كانوا قلائل، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت بمثابة الدار له (ع).
الرّابع: للمؤمنين والمؤمنات على مرّ العصور، ومن هنا يوثق نوح (ع) العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم، ويؤكّد في النهاية على هلاك الظالمين، وأنّهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.
بحث
نوح (ع) أوّل أنبياء اُولي العزم
ذكر نوح (ع) في كثير من الآيات القرآنية، ومجموع السور التي ذكر فيها (ع) (29) سورة، وأمّا اسمه (ع) فقد فقد ورد 43 مرّة.
وقد شرح القرآن المجيد أقساماً مختلفة من حياته (ع) شرحاً مفصلاً، وتتعلق أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ، وذكر المؤرخون أنّ اسمه كان "عبد الغفار" أو "عبد الملك" أو " عبد الأعلى"، ولقب بـ "نوح" لأنّه كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه، وكان اسم أبيه "لمك" أو " لامك"، وفي مدّة عمره (ع) اختلاف، فقال البعض: 1490 عاماً، وجاء في بعض الرّوايات أنّ عمره 2500 عام، وأمّا عن أعمار قومه الطويلة فقد قالوا 300 عام، والمشهور هو أن عمره كان طويلاً، وصرح القرآن بمدّة مكثه في قومه وهي 950 عاماً، وهي مدّة التبليغ في قومه، كان لنوح (ع) ثلاثة أولاد، وهم (حام) (سام) (يافث) ويعتقد المؤرخون بأنّ انتساب البشر يرجع إلى هؤلاء الثلاثة، فمن ينتسب إلى حام يقطن في القارة الإفريفية، والمنتسبون لسام يقطنون الأوسط والأقصى، وأمّا المنتسبون إلى يافث فهم يقطنون الصين، وقيل أنّ المدّة التي عاشها بعد الطوفان 50 عاماً، وقيل 60 عاماً.
وورد بحث مفصل عن حياة نوح (ع) في التوراة المتواجد حالياً، إلاّ أنّ هناك اختلافاً كبيراً بينه وبين القرآن المجيد، وهذا الإختلاف يدل على تحريف التوراة، وقد ذكرت هذه البحوث في الفصول 6، 7، 8، 9، 10 من سفر التكوين للتوراة.
وكان لنوح (ع) ابن آخر يدعى (كنعان) وكان مخالفاً لأبيه، إذ رفض الإلتحاق به في السفينة ففقد بقعوده هذا الشرف الإنتساب إلى بيت النبوّة، وكانت عاقبته الغرق في الطوفان كبقية الكفّار، وأمّا عن عدد المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا السفينة معه فقد قيل 70 نفراً، وقيل 7 أنفار، ولقد انعكست آثار كثيرة من قصّة نوح (ع) في لأدب العربي وأكثرها قد حكت عن الطوفان وسفينة النجاة.(5)
كان نوح (ع) اُسطورة للصبر والمقاومة، وقيل هو أوّل من استعان بالعقل والإستدلال المنطقي في هداية البشر، بالإضافة الى منطق الوحي (كما هو واضح من آيات هذه السورة) وبهذا الدليل يستحق التعظيم من قبل جميع الناس.
وننهي ما وضحناه عن نوح (ع) بحديث عن الإمام الباقر (ع) إذ قال: "كان نوح (ع) يدعو حين يمسي ويصح بهذا الدعاء: "أمسيت أشهد أنّه ما أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فإنّها من اللّه لا شريك له، له الحمد بها عليّ والشكر كثيراً، فأنزل اللّه: (إنّه كان عبداً شكوراً) فهذا كان شكره".(6)
في قوله تعالى: (ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً...) قيل في معني البيت هنا هو بيته الخاص، وقيل المسجد، وقيل سفينة نوح، وقيل هو دينه وشريعته.
وورد عن الإمام الصّادق (ع) أنّه قال: "من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء".(7)
اللّهمّ ارحمنا بقبول ولاية أهل البيت (عليهم السلام) حتى ندخل بيت الأنبياء.
ربّنا، مُنّ علينا بالإستقامة كما مننت على الأنبياء كنوح (ع) لنبقى دعاة إلى دينك بلا تقاعس.
اللّهم، نجّنا بسفينة نجاة لطفك ورحمتك عند نزول الطوفان غضبك وسخطك.
آمين يا ربّ العاليمن
نهاية سورة نوح (ع)
1- تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص380.
2- قال البعض أنّ الأصل كان (ديوار) على وزن حيوان ثمّ بدلت الواو بـ (ياء) واُدغمت في الباء الاُولى وصارت ديار (البيان في غرائب القران، ج2، ص465، تفسير الفخر الرازي، ذيل هذه الآيات).
3- هود، 36.
4- ورد هذا المعنى أيضاً في الرّوايات كما في تفسير الثقلين، ج5، ص428.
5- "تبار": تعني الهلاك، وقيل الضرر والخسارة.
6- بحار الأنوار، ج11.
7- بحار الأنوار، ج11، ص291، ح3.