الآيات 21 - 25
﴿قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَونِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لِّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً (21) وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُواْ لا َتَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدَّاً ولاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلَّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّـلِمِينَ إِلاَّ ضَلَـلاً (24) مِّمَّا خَطِئتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً (25)﴾
التفسير:
لطف اللّه معك:
عندما رأى نوح (ع) عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين، وما كانوا يزدادون فيها إلاّ فساداً وضلالاً، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث، (قال نوح ربّ إنّهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلاّ خساراً).
تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان، ولا يخضعون للّه تعالى، وهذه الإمتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.
وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الإنسان لوجدنا أنّ الكثير من رؤساء القبائل هم من هذا القبيل، من الذين يجمعون المال الحرام، ولهم ذرّية فاسدة، ويفرضون في النهاية أفكارهم على المجتمعات المستضعفة، ويكبّلونهم بقيود الظلم.
ثمّ يضيف في قوله تعالى: (ومكروا مكراً كبّاراً).
"كبّار" صيغة مبالغة من الكبر، وذكر بصيغة النكرة، ويشير إلى أنّهم كانوا يضعون خططاً شيطانية واسعة لتضليل الناس، ورفض دعوة نوح (ع)، ومن المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب، وذلك طبقاً للرّوايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوح (ع) وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها، وذكر أنّ في المدّة الزمنية بين آدم ونوح (عليهما السلام) كان هناك اُناس صالحون أحبّهم الناس، ولكن الشيطان "أو الأشخاص الشيطانيين" عمد إلى استغلال هذه العلاقة، وترغّبهم في صنع تماثيل أُولئك الصالحين بحجّة تقديسهم وإجلالهم، وبعد مضي الزمن نسيت الأجيال هذه العلاقة التاريخية، وتصورت أنّ هذه التماثل هي موجودات محترمة ونافعة يجب عبادتها، وهكذا شُغلوا بعبادة الأصنام، وعمد الظلمون والمستكبرون إلى إغفال الناس وتكبيلهم بحبائل الغفلة، وهكذا تحقق المكر الكبير.
وتدل الآية الأُخرى على هذا الأمر، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم).
ولا تقبلوا دعوة نوح إلى اللّه الواحد، وغير المحسوس، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام، وقالوا: (ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً).
ويستفاد من القرائن أنّ لهذه الأصنام الخمسة مميزات وخصائص، وأنّها لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.
وهناك روايات متعددة تشير إلى وجود وابتداع هذه الأصنام، وهى:
1 - قال البعض: إنّها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوح (ع) وعندما رحلوا من الدينا اتّخذوا لهم تماثيل لتبقى ذلكرى، وذلك بتحريك وإيحاء من إبليس، فوقّروها حتى عبدت تدريجياً بمرّ العصور.
2 - قيل أنّها أسماء خمسة أولاد لآدم (ع) كان كلّما يموت أحدهم يضعون له تمثالاً وذلك لتخليد ذكراه، وبمرور الزمن نُسي ذلك الغرض وأخذوا يروجون عبادتها بكثرة في زمن نوح (ع).
3 - البعض الآخر يعتقد أنّها أسماء لأصنام في زمن نوح (ع)، وذلك لأنّ نوحاً (ع) كان يمنع الناس من الطواف حول قبر آدم (ع) فاتخذوا مكانه تماثيل بإيعاز من إبليس وشغلوا بعبادتها (1).
وهكذا انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى الجاهلية العربية، وانتخبت كل قبيلة واحدة من هذه الأصنام لها، ومن المستبعد أن تكون الأصنام قد انتقلت إليهم، بل إنّ الظاهر هو انتقال الأسماء إليهم ثمّ صنعهم التماثيل لها، ولكن بعض المفسّرين نقلوا عن اين عباس أنّ هذه الأصنام الخمسة قد دفنت في طوفان نوح (ع)، ثمّ أخرجها الشيطان في عهد الجاهلية ودعا الناس إلى عبادتها (2).
وفي كيفية تقسيم هذه الأصنام على القبائل العربية في الجاهلية، قال البعض: إنّ الصنم (ود) قد اتّخذته قبيلة بني كلب في أراضي دومة الجندل، وهي مدينة قريبة من تبوك تدعي اليوم بالجوف، واتّخذت قبيلة هديل (سواعاً) وكانت في بقاع رهاط، واتّخذت قبيلة بني قطيف أو قبيلة بني مذحج (يغوث)، وأمّا همدان فاتّخذت (يعوق)، واتّخذت قبيلة ذي الكلاع (نسراً)، وهي قبائل حمير (3).
وعلى كل حال، فإنّ ثلاثة منها أي (يغوث ويعوق ونسر) وكانت في اليمن ولكنّها اندثرت عندما سيطر ذو نؤاس على اليمن، واعتنق أهلها اليهودية (4).
يقول المؤرخ الشهير الواقدي: كان الصنم (ود) على صورة رجل، و (سواع) على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد و (يعوق) على صورة فرس و (نسر) على صورة نسر (الطائر المعروف).(5)
وبالطبع أنّ هناك أصنام أُخرى كانت لعرب الجاهلية، منها "هبل" الذي كان من أكبر أصنامها التي وضعوها داخل الكعبة، وكان طوله 18 ذراعاً، والصنم (أساف) المقابل للحجر الأسود، والصنم (نائلة) الذي كان مقابل الركن اليماني (الزاوية الجنوبية للكعبة) وكذلك كانت (اللات) و (العزى).(6)
ثمّ يضيف عن لسان نوح (ع): (وقد أضلوا ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً) المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم: ليكون سبباً في تعاستهم، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم اللّه بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان، ولتحلّ محله ظلمة الكفر.
أو أنّ هذ هي خصوصية أعمالهم التي تنسب إلى اللّه تعالى، وذلك لأنّ كل موجود يؤثر أي تأثير فهو بأمر من اللّه تعالى، وليس هناك ما ينافي الحكمة الإلهية في مسألة الإيمان والكفر والهداية والضلالة ولا يسبب سلب الإختيار.
وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث، يقول اللّه تعالى فيها: (ممّا خطيئاتهم اُغرقوا فأُدخلوا ناراً فلم يجدوا من دون اللّه أنصاراً).(7)
تشير الآية إلى ورودهم النّار بعد الطوفان، وممّا يثير العجب هو دخولهم النّار بعد الدخول في الماء! وهذه النّار هي نار البرزخ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية، وكذا ذكرت الرّوايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران.
وقيل من المحتمل أن يكون المراد بالنّار هو يوم القيامة، ولكن بما أنّ وقوع يوم القيامة أمر حتمي وهو غير بعيد، فإنّها ذكرت بصورة الفعل الماضي.(8)
واحتمل البعض أنّ المراد هي النّار في الدنيا، حيث يقولون أنّ ناراً قد ظهرت بين تلك الأمواج بأمر من اللّه تعالى وابتلعتهم.(9)
1- مجمع البيان، تفسير علي بن ابراهيم، تفسير أبوالفتوح الرازي، وتفاسير اُخرى ذيل الآيات التي هي مورد البحث.
2- تفسير القرطبي، ج10، ص6787.
3- مجمع البيان، ج10، ص364، وأعلام القرآن، ص131.
4- المصدر السابق.
5- مجمع البيان، ج10، ص364.
6- المصدر السابق.
7- الضمير في "أضلوا" يعود إلى أكابر قوم نوح(عليه السلام) بقرينة الآية السابقة: (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم) واحتمل بعض المفسّرين أنّ الضمير يعود إلى (الآلهة) لأنّها سببت في ضلالهم وجاء ما يشابه ذلك في الآية (36) من سورة ابراهيم(عليه السلام)وبصورة ضمير جمع المؤنث لا ضمير جمع المذكر، وهذا الإحتمال بعيد.
8- "من" في (خطيئاتهم) بمعني باء السببية أو (لام التعليل) و (ما) زائدة للتأكيد.
9- الفخر الرازي ينقل ذلك في تفسيره بعنوان قول من الأقوال في ج30، ص145.