الآيات 5 - 9
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيلاًَ وَنَهَارَاً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً (6) وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَـبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاستَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُم إِسْرَاراً (9)﴾
التفسير:
استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم، ولكن!!!
تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمّة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرّة جاء الحديث على لسانه مخاطباً ربّه وشاكياً إليه أمره معهم بعبارة مأثرة بليغة.
خطاب نوح (ع) في هذا الإطار يمكن أن يعبّد الطريق لكلّ المبلغين الرساليين، فيقول: (ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً).
وإنّني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم، ثمّ يقول: (فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً).
ومن العجيب أن تكون الدعوة سبباً لفرارهم، ولكن بما أنّ كلّ دعوة تحتاج إلى نوع من الإستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيباً أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة، وبمعنى آخر أنّ أعداء الحق المعاندين عندما يستمعون لدعوة المؤمنين الرساليين يظهرون لهم المقاومة والإصرار على العناد، وهذا ما يبعدهم عن اللّه بصورة أكثر، ويقوي عندهم روح الكفر والنفاق.
وهذا ما أُشير إليه في سورة الإسراء (82): (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً).
وما نقرأ كذلك في آيات هذا الكتاب السماوي أنّه سبب لهداية المتقين: (...هدى للمتقين).(1)
ولهذا لابدّ أن يكون هناك مرحلة من التقوى في وجود الإنسان وإن كانت ضعيفة، حتى يتهيأ لقبول الحقّ، هذه المرحلة هي مرحلة (الروح الباحثة عن الحقيقة) والإستعداد لتقبل كلمات الحق.
ثمّ إنّ نوحاً (ع) يضيف: (وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).
ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل أمواج الصوت إلى أدمغتهم! وربّما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النّبي العظيم، وفي الحقيقة كانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر!
وهذا في الواقع أمر مدهش أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من العداوة للحق إلى حدّ لا يعطي لنفسه فرصة النظر والسماع والتفكر.
وقد ورد في بعض التفاسير أنّ بعض اُولئك المعاندين كان يذهب بابنه إلى نوح (ع) فيقول له: إحذر هذا لا يغوينك، فإنّ أبي قد جاء بي إليه وأنا صغير مثلك فحذّرني مثل ما حذّرتك (2)، (حتى أكون ممّا وفى بحق الوصية وحبّ الخير).
هذا يدل على أنّ نوحاً (ع) كان مستمراً في دعوته الإلهية طوال عمره الشريف ولعدّة أجيال وكان لا يعرف التعب أبداً.
وكذلك تتضمّن الآية الإشارة إلى أحد الأسباب المهمّة لتعاستهم وهو الغرور والتكبر، لأنّهم كانوا يرون أنفسهم أكبر من أن يتنازلوا لإنسان مثلهم، وإن كان ممثلاً عن اللّه وتقيّاً، ومهما كان قلبه عامراً بالعلم، فكان هذا الغرور والكبر أحد الموانع المهمّة والدائمة في طريق الحق، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك على طول التاريخ في حياة اُناس لا إنمان لهم.
واستمر نوح (ع) في حديثه عند المقام الإلهي، فقيول: (ثم إنّي دعوتهم جهاراً).
دعوتهم إلى الإيمان في حلقات عامّة وبصوت جهور، ثمّ لم أكتفي بهذا: (ثمّ إنّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً) قال بعض المفسّرين: إنّ نوحاً (ع) اتّبع في دعوته ثلاثة أساليب مختلفة حتى يستطيع من النفوذ في هذا الجمع المعاند والمتكبر: كان يدعو أحياناً في الخفاء فواجه أربعة أنواع من الرفض (وضع الأصابع في الآذان، تغطية الوجوه بالملابس، الإصرار على الكفر، والاستكبار).
وكان يدعو أحياناً بالإعلان، وأحياناً اُخرى يستفيد من طريق التعليم العلني والسري ولكن أيّاً من هذه الاُمور لم يكن مؤثراً (3).
من المعلوم أنّ الإنسان إذا ما نهج طريق الباطل إلى حدّ تتعمق في وجوده جذور الفساد وتنفذ في أعماق وجوده حتى تتحول إلى طبيعة ثانية فيه، فإنّه سوف لا تؤثر فيه دعوة الصالحين ولا ينفع معه خطابات رسل اللّه.
ملاحظتان
1 - أُسلوب الإبلاغ ومنهجه
ما جاء في هذا الآيات حول دعوة نوح يمثل برنامج عام لجميع المبلغين في طريق اللّه، وفي نفس الوقت تسلية النّبي (ص) وأصحابه المؤمنين القلائل الذين كانوا قد التفوا حوله في مكّة.
إنّه (ع) لم يكن يتوقع أن يستجيب الناس لدعوته، ولم يكونوا يجتمعون في وسط المدينة ليلقي فيهم خطابه الإلهي بهدوء واطمئنان، والناس يصغون إليه، ويشخصون إليه أعينهم، بل يستفاد من سياق الآيات (كما جاء أيضاً في بعض الرّوايات) أنّه كان أحياناً يذهب إلى بيوتهم، أو أنّه يدعوهم في الأزقة والأسواق على إنفراد، ويبلغهم المفاهيم ويتحدّث إليهم بتودد وتحبب وتصبر، وأحياناً كان يخاطبهم بأوامر اللّه تعالى علناً وبصوت عال، وذلك باغتنامه فرص انعقاد المحافل أو مجالس العزاء، فكان يقابل بالإهانة والإستهزاء وأحياناً بالضرب المبرح، ولكنّه مع ذلك كان لا ينتهي عن ذلك ويواصل مسيره.
كان صبره عجيباً، والأعجب ما فيه رأفته، وكانت همته واستقامته الفريدة رأس ماله في السير في طريق الدعوة إلى دين الحق.
والأعجب من ذلك هو أنّ طيلة دعوته التي دامت (950) عاماً لم يؤمن به إلاّ ثمانون شخصاً، ولو قسمنا هذه المدّة على عدد الأنفار يتّضح لنا أنّ مدّة هدايته لكل فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريباً!!
لو كان المبلّغون يتعاملون بمثل هذه الإستقامة والهمة لأصبح الإسلام عالمياً غني المحتوى.
2 - لماذا الفرا من الحقيقة؟
يتعجب الإنسان أحياناً ويتساءل هل يمكن أن يكون هناك أُناس يعيشون تحت هذه السماء ليس لديهم الإستعداد لسماع كلمة الحق بل يفرون منه؟
والسؤال عن السماع فقط وليس عن قبول الكلمة.
ولكن التاريخ يتحدّث عن كثرة أمثال هؤلاء، ليس فقط قوم نوح هم الذين وضعوا أصابعم في آذانهم وغشوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم عند دعوته لهم، بل هناك فئة في عصر النّبي (ص) وبصريح القرآن كانوا يستعينون بالصفير والتهريج والصراخ العالي ليحولوا بين صوت النّبي وهو يتلو آيات اللّه وبين الناس: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (4).
وجاء في تاريخ كربلاء الدامية كذلك أنّه عندما كان سيّد الشّهداء الإمام الحسين (ع) يدعو الأعداء المنحرفين إلى الرشاد ويوقظهم كانوا يستخدمون هذا الاُسلوب من الصراخ والتهريج حتى لا يسمع الناس تصوته (5)، وهذه الخطة مستمرة إلى يومنا هذا، ولكن بأشكال وصور أُخرى; فلقد وفّر أصحاب الباطل جواً من المسليات المفسدة كالموسيقى الراقصة والمواد المخدرة وغير ذلك يبغون بذلك الفصل بين الناس - بالخصوص الشباب - وبين سماع أصوات أهل اللّه تعليماتهم.
1- البقرة، 3.
2- مجمع البيان، ج10، ص361.
3- تفسير الفخر الرازي، ج30، ص136.
4- فصلت، 26.
5- بحار الأنوار، ج45، ص8.