الآيات 36 - 41

﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهطِعِينَ (36) عَنِ الَْيمِينِ وَعَنِ الْشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىء مِنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيم (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَـرِقِ وَالْمَغَـرِبِ إِنَّا لَقَـدِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرَاً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)﴾

التفسير:

الطمع الواهي في الجنّة:

جاء البحث في الآيات السابقة من هذه السورة حول علامات المؤمنين والكفار، ومصير كلّ من المجموعتين، في الآيات يعود ليوضح أحوال الكفار واستهزاءهم بالمقدسات.

قال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المشركين فعندما كان الرّسول (ص) يتلو على المسلمين آيات المعاد، كان هؤلاء الكفار يقدمون من كلّ صوب وحدب ويقولون: إذا كان هناك معاد فإنّ حالنا في الآخرة أحسن من حال من آمن بك، كما أنّ حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم.

يقول القرآن الكريم في جوابهم: (فمال الذين كفروا قِبلك مهطعين) أي يقبلون نحوك من كل جانب مسرعين.

(عن اليمين وعن الشمال عزين) أي جماعات متفرقين.

(أيطمع كلّ آمرىء منهم أن يدخل جنّة النعيم)

بأي إيمان وبأي عمل يستحقون ذلك؟!

"مهطعين": جمع مهطع، وتعني الذي يمدّ عنقه مقبلاً على شيء بسرعة للبحث عنه، وأحياناً تأتي - فقط - بمعنى مدّ العنق لاستطلاع الأمر.

"عزين": جمع عزة، على وزن "هبة" وتعني جماعات في متفرقين، وأصلها "عزو" - على وزن جذب - بمعنى النسبة، وبما أنّ كلّ جماعة يرتبط أفرادها بعضهم ببعض بنسبة معينة: أو يهدفون إلى غرض معين اُطلقت كلمة "عزة" على الجماعة.

على كل حال فإنّ المشركين المتكبرين كان لهم الكثير من الإدعاءات الباطلة الواهية، وكانت الرّفاهية في حياتهم الدنيوية وغالباً ما كان يتمّ ذلك بطريق غير مشروع كالإغارة والسلب وغير ذلك ما كان يجعلهم يظنون بأنّهم قد حصلوا على هذه المقامات العالية ولمكانتهم عند اللّه، فكانوا ينسبون إلى أنفسهم المقامات الرفيعة في يوم القيامة.

صحيح أنّهم لم يكونوا يعتقدون بالمعاد بتلك الصورة التي يبيّنها القرآن، ولكنّهم كانوا يحتملون وقوعه أحياناً، ويقولون: إذا وقع المعاد فإنّ حالنا في العالم الآخر سيكون كذا كذا، ولعلهم كانوا يريدون بذلك الإستهزاء.

وهنا يجيبهم القرآن المجيد فيقول: (كلا) ليس الأمر كذلك وليس لهم حقّ الدخول إلى الجنّة (إنا خلقناهم ممّا يعملون)

في الحقيقة أنّ اللّه يريد بهذه الجملة أن يحطم غرورهم، لأنّه يقول: إنّكم تعلمون جيداً مم خلقناكم؟ من نطفة قذرة، من ماء آسن مهين، فلماذا كلّ هذا الغرور؟ ويجيب ثانياً على المستهزئين بالمعاد فيقول: إذا كنتم في شك من المعاد فتمعنوا في حال هذه النطفة، وانظروا كيف خلقنا موجوداً بديعاً من قطرة ماء قذرة يتطور فيها الجنين كلّ يوم يتّخذ شكلاً جديداً، ألم يقدر خالق الإنسان من هذه النطفة أن يعيد إليه الحياة بعد دفنه.

ثالثاً: كيف يطمعون في الجنّة وفي صحائفهم كل هذه الذنوب؟ لأنّ الموجود الذي خلق من نطفة لا يمكن أن يكون له قيمة مادية، وإذا كانت له قيمة وكرامة فإنّ ذلك لإيمانه وعمله الصالح، وأُولئك قد فقدوا هذه الصفات، فكيف ينتظرون الدخول إلى الجنّة؟!(1)

ثمّ يقول تعالى مؤكّداً ذلك: (فلا أُقسم بربّ المشارق والمغارب إنّا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين).

لعل هذه الجملة إشارة إلى أنّنا لسنا قادرين على أن نعيد لهم الحياة بعد الموت فحسب، بل إنّنا نستطيع أن نبدله إلى أكمل الموجودات وأفضلها، ولا يمنعنا من ذلك شيء.

وعلى هذا فإنّ السياق هو إدامة لبحث المعاد، أو هو إشارة إلى أنّنا نهلككم جزاءً لأعمالكم ولا يمنعنا من ذلك شيء، ونستبدل بكم مؤمنين واعين، ليكونوا أنصاراً للنّبي (ص) ولا يضرّنا ذلك شيئاً، ولهذا إن كنّا نلح عليكم أن تؤمنوا فليس من باب العجز والإحتياج، بل من أجل تربية البشرية وهدايتها.

يمكن أن يكون المراد بـ (ربّ المشارق والمغارب) بأن اللّه الذي يقدر على أن يجعل للشمس العظيمة مشرقاً ومغرباً جديدين في كل يوم، ويكون بنظام دقيق من دون أية زيادة ونقصان مدى ملايين السنين قادر على أن يعيد الإنسان مرّة أُخرى إلى الحياة الجديدة ويستبدلهم بقوم أفضل منهم.

ملاحظة:

ربّ المشارق والمغارب:

قد يأتي تعبير المشرق والمغرب في أحياناً بصيغة المفرد كالآية (115) من سورة البقرة: (وللّه المشرق والمغرب) وأحياناً بصيغة المثنى كما في الآية (17) من سورة الرحمن: (ربّ المشرقين وربّ المغربين) وأحياناً أُخرى بصيغة الجمع (المشارق والمغارب) كالآية التي هو مورد بحثنا.

البعض من ذوي النظرات الضيقة يظنون تضاد هذه التعابير، في حين أنّها مترابطة، وكل منها يشير إلى بيان خاص، فالشمس في كلّ يوم تطلع من نقطة جديدة، وتغرب من نقطة جديدة أُخرى، وعلى هذا الأساس لدينا بعدد أيّام السنة مشارق ومغارب، ومن جهة أُخرى فإنّ من بين كل هذه المشارق والمغارب هناك مشرقان ومغربان ممتازان، إذ أن أحدهما يظهر في بدء الصيف أي الحد الأعلى لبلوغ ذروة ارتفاع الشمس في المدار الشمالي، والآخر في بدء الشتاء أي الحد الأدنى لنزول الشمس في المدار الجنوبي، (ويعبرون عن أحدهما بمدار "رأس السرطان"، وعن الآخر بمدار "رأس الجدي"،) وقد اعتمد على ذلك لأنّهما واضحان تماماً، بالإضافة إلى هذين المشرقين والمغربين الآخرين الّذَين سمّيا بالمشرق والمغرب والإعتداليان (وهو أوّل الربيع وأوّل الخريف، عند تساوي ساعات الليل والنهار في جميع الدنيا) ولذا ذهب البعض إلى هذا المعنى في تفسير الآية: "ربّ المشرقين والمغربين" وهو معنى مقبول أيضاً.

وأمّا ما جاء بصيغة المفرد فإنّ المراد به ماهيته، لأنّ الملاحظ فيه أصل المشرق والمغرب بدون الإلتفات إلى الأفراد، وبهذا الترتيب فإنّ لكلّ من العبارات المختلفة أعلاه مسألة تلفت نظر الإنسان إلى التغييرات المختلفة لطلوع وغروب الشمس، والتغيير المنتظم لمدارات الشمس.


1- هناك احتمالات اُخرى في تفسير هذه الآية: أنّ المراد من جملة "ممّا يعلمون" هو أنّنا خلقناهم ووهبنا لهم العقل والشعور لا كالحيوانات والبهائم، ولهذا فإنّهم مسوؤلون عن أعمالهم، وهناك مراد آخر وهو أنّنا خلقناهم لأهداف هم يعلمونها وهي التكليف والطاعة، ولكن هذه الإحتمالات بعيدة، ولذا فإنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى المعنى المذكور سابقاً.