الآيات 8 - 18
﴿يَوْمَ تَكُونُ الَّسمَآءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الُْمجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذ بِبَنِيهِ (11) وَصـحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُؤِيهِ (13) وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)﴾
التفسير:
تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر، حيث يقول اللّه تعالى: (يوم تكون السماء كالمهل) (1)، (وتكون الجبال كالعهن).
"المهل": على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما، ويراد له أحياناً دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون، وهذا هو ما يناسب المعنى الأوّل، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.
"العهن": مطلق الصوف المصبوغ ألوناً.
نعم، في مثل ذلك اليوم تتلاشى السموات وتذوب، تتدكدك الجبال ثمّ تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الرّيح، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان، ثمّ يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كلّ هذا الخراب.
وعندما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيراً ومرعباً بحيث ينشغل كل بنفسه، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه: (ولا يسأل حميم حميماً) (2).
الكلّ مشغول بنفسه، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (37): (لكلّ اُمريء منهم يومئذ شأن يغنيه) (3).
ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضاً، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى: (يبصرونهم) (4)، غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لا يمكنه من التفكر بغيره.
وإكمالاً للحديث وتوضيحاً لذلك الموقف الموحش، يضيف تعالى: (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه).
وليس ببنيه فحسب بل، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضاً (وصاحبته وأخيه).
(وفصيلته التي تؤيه) أي عشيرته واقرباءه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا: (ومن في الأرض جميعاً ثمّ ينجيه).
نعم، إنّ عذاب اللّه شديد في ذلك اليوم المهول الى حدّ يودّ الأنسان فيه أن يفدي أعزّته وهم أربع مجاميع: "الأولاد، الزوجات، الإخون، عشيرته الأقربون الناصرون له" فيضحي بهم لخلاص نفسه، وليس فقط اُولئك بل إنّه مستعد للإفتداء بمن في الأرض جميعاً لينجي نفسه!
"يود": من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى، ويقول الراغب: يمكن استعمال أحد المعنيان (بل الإثنان معاً).
"يفتدي": من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما.
"الفصيلة": هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.
"تؤيه":من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.
وقال بعض المفسّرين بأنّ (ثمّ) في (ثمّ ينجيه) تدل على أنّهم يعملون أنّ هذا الإفتداء لا ينفع شيئاً، وأنّه محال (لأنّ ثمّ تأتي عادة في المسافة والبعد).
ولكنّه يجيب على كلّ هذه الأماني والآمال في قوله: (كلاّ) أي لا تقبل الفدية والإفتداء.
(إنّها لظى) نار ملتهبة تحرق كلّ من بجانبها وفي مسيرها.
(نزاعة للشوى) تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.
"لظى": تعني لهيب النّار الخالص، وهي اسم من أسماء جهنم أيضاً، يمكن الأخذ بالمعنيين الآية.
"نزاعة": أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي و"شوى": الأطراف كاليد والأرجل، وتأتي أحياناً بمعنى الشواء، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل، لأنّه عندما تتصل النّار المحرقة وليبها بشيء فإنّها تحرق وتفصل أوّلاً الأطراف والجوانب وفروع ذلك.
ويرى بعض من المفسّرين أنّ الشوى هو جلد البدن، والبعض يقول أنّه اُم الرأس، والبعض الآخر: يفسّره بلحم الساق، وقد أجمع الجميع على المعنى الأوّل الذي قلناه، والعجيب أنّه مع هذا الحال فليس في الأمر موت!
ثمّ يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النّار، فيقول: (تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى).
وبهذا فإنّ هذه النّار المحرقة تدعو اُولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصّة المودعة فيها تجاه المجرمين، أو بلسان مقالها الذي أعطاها اللّه إيّاها: إنّها تدعو اُولئك المتصفين: بهاتين الصفتين الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة اللّه ورسوله، ومن جهة اُخرى يفكرون دائماً بجمع الأموال من الحرام والحلال وادخارها من دون أن يلتفتوا إلى حقوق البائسين والمحرومين، أو أنّهم يجهلون فلسفة المال الذي يعتبر من النعم الإليهة.
1- لـ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب، ولكن الأفضل أن يكون بدلاً من (قريباً) في الآية السابقة أو متعلقاً بفعل محذوف مثل (اذكر).
2- "الحميم": تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثمّ اُطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.
3- وردت تفاسير اُخرى، منها: لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأنّ أحوالهم ظاهرة في وجوههم، وإذا كانت ظاهرة فلا مبرر للسؤال، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية، مسؤولية أعماله عن الآخرين ولكن التّفسير الأوّل هو الأصح.
4- مع أنّ "حميم" قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد، فقد جاء في "يبصرونهم" ضمير بصورة الجمع لأنّ له معنىً جنسي.