الآيات 38 - 43
﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرِ قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ(41) وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِن قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ(43)﴾
التّفسير:
القرآن كلام الله قطعاً:
بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه الله سبحانه للمؤمنين والكفّار، يبيّن الباريء عزّوجلّ في هذه الآيات بحثاً وافياً حول القرآن والنبوّة، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلا منهما مكمّلا للآخر.
يقول الراغب في البداية: (فلا اُقسم بما تبصرون وما لا تبصرون).
المعروف أنّ كلمة (لا) زائدة وللتأكيد في مثل هذه الموارد، ولكن ذهب البعض إلى أنّ (لا) تعطي معنى النفي أيضاً، ويعني ذلك أنّني لا اُقسم بهذا الأمر، لأنّه أوّلا: لا توجد ضرورة لمثل هذا القسم.
وثانياً: يجب أن يكون القسم باسم الله، إلاّ أنّ هذا القول ضعيف، والمناسب هو المعنى الأوّل، إذ ورد في القرآن الكريم قسم باسم الله وبغيره في الكثير من الآيات.
جملة (بما تبصرون وما لا تبصرون) لها معنىً واسع، حيث تشمل كلّ ما يراه البشر وما لا يراه، وبعبارة اُخرى تشمل كلّ عالم (الشهود) و (الغيب).
وقد ذكرت إحتمالات اُخرى لتفسير هاتين الآيتين، منها: أنّ المقصود من عبارة (بما تبصرون) هو عالم الخلقة، ومن (وما لا تبصرون) هو الخالق عزّوجلّ.
وقيل إنّ المقصود بالاُولى هو النعم الظاهرية، وفي الثانية النعم الباطنية.
أو أنّ المقصود بهما: البشر والملائكة على التوالي، أو الأجسام والأرواح، أو الدنيا والآخرة.
إلاّ أنّ سعة مفهوم هاتين العبارتين يمنع من تحديدهما.
وبناء على هذا فإنّ كلّ ما يدخل في دائرة المشاهدة وما هو خارج عنها مشمول للقسم، إلاّ أنّه يستبعد شمولهما للباريء عزّوجلّ، بلحاظ أنّ جعل الخالق مقترناً بالخلق أمر غير مناسب، خصوصاً مع تعبير (ما) الذي جاء في الآية الكريمة والذي يستعمل في الغالب لغير العاقل.
ويستفاد ضمناً من هذا التعبير بصورة جيّدة أنّ الاُمور والأشياء التي لا يراها الإنسان كثيرة جدّاً، وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة، وهي أنّ المحسوسات التي تحيطنا تشمل دائرة محدودة من الموجودات - والأشياء غير المحسوسة - سواء في مجال الألوان والأصوات والأمواج والمذاقات وغيرها - هي في الواقع أوسع دائرة من الاُمور الحسيّة.
فالنجوم التي يمكن رؤيتها في مجموع نصفي الكرة الأرضية بحدود خمسة آلاف نجمة، طبقاً لحسابات علماء الفلك، أمّا النجوم التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة فهي تعدّ بالمليارات.
والأمواج الصوتية التي تستطيع اُذن الإنسان سماعها هي أمواج محدودة، أمّا الأمواج الصوتية الاُخرى التي لا تستطيع الاُذن سماعها فتقدّر بالآلاف.
وبالنسبة للألوان التي نستطيع رؤيتها فهي سبعة ألوان معروفة، وقد أصبح من المسلّم اليوم وجود ما لا نهاية له من الألوان الاُخرى، كلون ما وراء البنفسجي، وما دون الأحمر، حيث لا يمكن أن تراها أعيننا.
أمّا عدد الحيوانات المجهرية التي لا ترى بالعين المجرّدة فهي كثيرة جدّاً إلى حدّ أنّها ملأت جميع العالم، إذ توجد في قطرة الماء أحياناً آلاف الآلاف منها، فما أضيق تفكير من يضع نفسه في إطار المحسوسات المادية فقط، ويبقى جاهلا لاُمور كثيرة لا تستطيع الحواس أن تدركها، أو أنّه ينكرها أحياناً؟
لقد أثبتت الدلائل العقلية والتجريبية أنّ عالم الأرواح عالم أوسع بكثير من عالم أجسامنا، فلماذا نحبس أنفسنا وعقولنا في إطار المحسوسات؟
ثمّ تستعرض الآية اللاحقة جواب هذا القسم العظيم، حيث يقول تعالى بأنّ هذا القرآن هو قول رسول كريم: (إنّه لقول رسول كريم).
والمقصود من الرّسول هنا - بدون شكّ - هو الرّسول الكريم (ص) وليس جبرائيل، لأنّ الآيات اللاحقة تبيّن هذا المعنى بوضوح.
والسبب في نسبة القرآن إلى الرّسول بالرغم من أنّنا نعرف أنّه قول الله تعالى، لأنّ الرّسول مبلّغ عنه، وخاصّة أنّ الآية ذكرت كلمة "رسول" وهذا يعني أنّ كلّ ما يقوله الرّسول فهو قول مرسله، بالرغم من أنّه يجري على لسان الرّسول، ويسمع من فمه الشريف.
ثمّ يضيف تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون(263) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون).
تنفي هاتان الآيتان ما نسبه المشركون والمخالفون من تهم باطلة لرسول الله(ص) إذ كانوا يقولون أحياناً: إنّه (شاعر) وإنّ هذه الآيات من شعره، كما كانوا يقولون أحياناً: إنّه (كاهن) وإنّ الذي يقوله هو (كهانة) لأنّ الكهنة أشخاص كانوا يتنبّؤن بأسرار الغيب أحياناً، وذلك لإرتباطهم بالجنّ والشياطين، وكانوا يطلقون عن قصد كلاماً مسجعاً وجملا موزونة.
ولأنّ القرآن الكريم أيضاً كان يتنبّأ ويتحدّث عن اُمور غيبية، وإنّ ألفاظه وعباراته لها نظام خاصّ، لذا اتّهم الرّسول (ص) بهذه التّهم، في حين أنّ الفرق بين الإثنين كالفرق بين الأرض والسماء.
لقد نقل البعض في سبب نزول هذه الآية أنّ (أبا جهل) نسب قول الشعر إلى رسول الله (ص)، وأنّ (عقبة) أو (عتبة) هو الذي نسب الكهانة إلى رسولنا الكريم وكذلك الآخرون أيضاً كانوا يردّدون هذه التّهم.
وفي الحقيقة فإنّ للقرآن الكريم ألفاظاً منسجمة، وتعابير ذات نظم جميل تسحر الآذان وتبعث الإطمئنان في الأرواح.
إلاّ أنّ هذا ليس له أي إرتباط مع شعر الشعراء، ولا مع سجع الكاهنين.
الشعر في الغالب وليد الخيال، ومعبّر عن الأحاسيس الجياشة في النفوس، والعواطف الملتهبة، ولهذا فإنّه يجسّد حالة عدم الإستقرار وعدم التوازن صعوداً ونزولا، شدّة وإنخفاضاً، في الوقت الذي نلاحظ أنّ القرآن الكريم، وهو يمثّل قمّة الروعة والجاذبية، فإنّه كتاب إستدلالي ومنطقي في عرضه للمفاهيم، وعقلاني في محتواه، وما فيه من التنبّؤ المستقبلي لا يشكّل قاعدة أساسية للقرآن الكريم، بالإضافة إلى أنّها صادقة جميعاً بخلاف ما عليه تنبّؤ الكهنة.
التعبير بـ (قليلا ما تؤمنون) و (قليلا ما تذكرون) هو توبيخ ولوم للأشخاص الذين يسمعون الوحي السماوي مقروناً بدلائل واضحة، إلاّ أنّهم يعتبرونه (شعراً) أحياناً، و (كهانة) أحياناً اُخرى.
وقليلا ما يؤمنون.
ويقول سبحانه في آخر آية - مورد البحث - كتأكيد على هويّة القرآن الربانية: (تنزيل من ربّ العالمين)(264).
وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة، وليس هو إنتاج فكر الرّسول، ولا قول جبرائيل... بل إنّه كلام الله سبحانه، حيث نزل بواسطة الوحي على القلب الطاهر لرسول الله (ص) وجاء هذا المعنى بعبارات مختلفة إحدى عشرة مرّة في القرآن الكريم.