الآيات 25 - 29

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـبِيَهْ (25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَـلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـنِيَهْ (29)﴾

التّفسير:

ياليتني متّ قبل هذا:

كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمين) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للإطلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها، ثمّ يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي.

أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدّم مقارنة بين المجموعتين، حيث يقول تعالى: (وأمّا من اُوتي كتابه بشماله، فيقول ياليتني لم اُوت كتابيه)(254).

(ولم أدر ما حسابيه ياليتها كانت القاضية)(255).

نعم، في ذلك اليوم العظيم، يوم البعث ويوم البروز والظهور، يوم الحساب والمحكمة الإلهية العظيمة، حيث تتوضّح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة والسيّئة للإنسان... وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه، والشرّ الذي جلبه عليها، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماماً، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى: (ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً)(256)

وذكرت تفاسير اُخرى - أيضاً - لمعنى قوله: (ياليتها كانت القاضية) منها أنّ المقصود من (القاضية) هي الموتة الاُولى، يعني ياليتنا لم نحي مرّة اُخرى ونبعث من جديد، في حين كان أقبح شيء في نظرهم هو الموت، ويتمنّى هؤلاء أن لو استمرّ موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية العادلة.

وقيل أنّ المقصود من "القاضية" (نفخة الصور) الاُولى حيث عبّر عنها بـ (القارعة) أيضاً، ويعني ذلك تمنّيهم عدم حدوث النفخة الثانية، لذا فهم يقولون: ياليت لم تكن هذه النفخة، إلاّ أنّ التّفسير الذي تحدّثنا عنه في البداية أنسب من الجميع.

ثمّ يضيف تعالى مستعرضاً إعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول: (ما أغنى عنّي ماليه) فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

(هلك عنّي سلطانيه) فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدّة، بل أنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاُخرى هلكت وزالت عنّي.

وخلاصة الأمر: إنّ الأموال والمقام والسلطان والقوّة... كلّها لم تفدني ولم تدفع عنّي ما أنا ملاقيه من عقاب على ما أسرفت في السابق، وقد وقفت بين يدي محكمة العدل الإلهي، وأنا لا أملك أي قوّة تنفعني في هذا اليوم، فقد ذهبت قدرتي، وقطع أملي من كلّ شيء، وتعطّلت بي الأسباب.

وهكذا يكون المجرمون في نهاية الذلّ والخزي والندم، ولات ساعة مندم.

اعتبر البعض معنى الـ (سلطان) هنا هو الدليل والبرهان الذي يكون عاملا في الإنتصار، وبذلك يكون تفسير الآية، أنّ المذنب يقول في ذلك اليوم: إنّي لا أملك أي دليل وحجّة أستطيع بها تبرير أعمالي في حضرة الباريء عزّوجلّ.

وقيل أيضاً أنّ المراد من (السلطان) هنا ليس السلطة الحكومية، ذلك لأنّ الداخلين إلى جهنّم ليسوا جميعاً سلاطين أو اُمراء، بل إنّ المراد هو سلطة الإنسان على نفسه وحياته وإرادته، ولكن بما أنّ الكثير من أهل النار كانوا يتمتعون بسلطة ونفوذ في عالم الدنيا، أو أنّهم كانوا من أصحاب الأموال... لذا يمكن إعتبار وجهة النظر هذه صحيحة حسب الظاهر.

ملاحظة

بعض القصص المثيرة:

نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامّة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات، لتكون درساً لاُولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل، وانغمسوا حتّى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما، ومن جملتها ما يلي:

1 - نقل في (سفينة البحار) عن كتاب (النصائح) ما نصّه: (عندما اشتدّ مرض هارون الرشيد في خراسان أمر بإحضار طبيب من طوس، ثمّ أوصى أن يعرض إدراره مع إدرار قسم من المرضى والأصحاء على الطبيب، ففحص الطبيب قناني الإدرار الواحدة بعد الاُخرى، حتّى وصل إلى القنينة التي فيها إدرار هارون الرشيد، وبدون أن يعلم من صاحب إدرار هذه القنينة قال: قولوا لصاحب هذه القنينة أن يوصي، لأنّ قواه قد انهدّت وبنيته قد هدمت، فعند سماع هارون هذا الكلام يئس من حياته، وتلا هذه الأبيات الشعرية:

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه لا يستطيع دفاع نَحْب قد أتى

ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يبرىء مثله فيما مضى

وفي هذه الأثناء سمع الناس يتداولون خبر موته، ولكي يبطل مفعول هذه الإشاعة، أمر باستحضار دابة، وطلب أن يركب عليها، وعندما امتطى الدابة ضعفت أرجلها عن حمله، قال: أنزلوني، فإنّ الذي أشاع هذه الشائعة قد صدق.

ثمّ أمر بجلب أكفان له، واختار كفناً منها نال إعجابه، وقال احضروا لي قبراً بالقرب من فراشي هذا، ثمّ نظر إلى قبره، وتلا هذه الآيات: (ما أغنى عنّى ماليه، هلك عنّي سلطانيه)(257).

2 - ونقل - أيضاً - في نفس المصدر عن العالم الكبير (الشيخ البهائي) ما نصّه هكذا: (كان هنالك رجل كثير الحساب لنفسه واسمه (توبة)، حوّل عمره البالغ ستّين عاماً إلى أيّام فكان مجموعها (21500) وعند ذلك قال: ياويلي إذا لم أكن قد أذنبت في اليوم إلاّ ذنباً واحداً فإنّ مجموع ذنوبي الآن يربو على واحد وعشرين ألف ذنب؟ فكيف اُلاقي ربّي بواحد وعشرين ألف ذنب؟ وبينما هو في هذه الحال إذ صرخ صرخة سقط على أثرها على الأرض وسلّم روحه إلى بارئها)(258).

3 - ورد في كتاب "اليتيمة" للثعالبي أنّه لمّا حانت وفاة عضد الدولة لم يتحرّك لسانه إلاّ بهذه الآية "ما أغنى عنّي ماليه هلك عنّي سلطانيه".