الآيات 18 - 24

﴿يَوْمَئِذ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـبِيهْ (19) إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـق حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِى عِيشَة رَّاضِيَة (21) فِى جَنَّة عَالِيَة (22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الاَْيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾

التّفسير:

ياأهل المحشر: اقرؤا صحيفة أعمالي

قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين.

الاُولى: عندما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود.

والثانية: بحدوث العالم الجديد، عالم الآخرة حيث البعث والنشور ...، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاُولى، ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية.

واستمراراً للحديث في هذا الصدد، وخصوصيات العالم الجديد الذي سيكون عند النفخة الثانية، تحدّثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).

"تعرضون" من مادّة (عرض) بمعنى عرض شيء معيّن، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ جميع ما في الوجود - بشراً وغيره - هو بين يدي اللّه سبحانه، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة، إلاّ أنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشدّ في يوم القيامة، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود، حيث تتّضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر.

إنّ جملة: (تخفى منكم خافية) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ الأسرار الخاصّة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحوّل في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور والوضوح كما يقول تعالى: (يوم تبلى السرائر)(244) في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفيّة فحسب، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاُخرى تبرز وتظهر، وهذا أمر عظيم جدّاً، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال - كما يقول البعض - حيث الفضيحة الكبرى للطالحين، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له، يوم يكون الإنسان عرياناً ليس من حيث الجسم فقط، بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد، نعم لا يبقى أمر مخفي من وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم.

ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع المخلوقات، ولكن التّفسير الأوّل أنسب.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك: (فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه)(245).

إنّ الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها، حتّى يكاد يطير من شدّة فرحته، حيث أنّ كلّ ذرّة من ذرّات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه النعم والتوفيق والهداية التي منّ الله بها عليه ويصرخ (الحمد لله).

ثمّ يعلن بافتخار عظيم فيقول: (إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه)(246).

"ظنّ" في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول: إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى، والتعهّد والإحساس بالمسؤولية، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثمّ يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول: (فهو في عيشة راضية)(247).

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كلّ ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع، إلاّ أنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر: (في جنّة عالية).

إنّ الجنّة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ، ولم يسمع بها، ولم يتصور مثلها.

(قطوفها دانية)(248).

حيث لا جهد مكلّف ولا مشقّة ولا صعوبة في قطف الثمار، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون إستثناء.

وفي آخر آية - مورد البحث - يوجّه الباريء عزّوجلّ خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنّة بقوله: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيّام الخالية).

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة التي ادّخروها ليوم كان فيه الحساب الحقّ، وأرسلوها سلفاً أمامهم، وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظلّ الرحمة الإلهية واللطف الربّاني.

ملاحظات

1 - تفسير آخر لكلمة (العرش)

جاء في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "حملة العرش - والعرش العلم - ثمانية، أربعة منّا، وأربعة ممّن شاء الله"(249).

وجاء أيضاً في حديث آخر لأمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "فالذين يحملون العرش، هم العلماء، الذين حمّلهم الله علمه"(250).

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنّه قال: "العرش ليس هو الله، والعرش اسم علم وقدرة"(251).

إنّ ما يستفاد من هذه الأحاديث - بشكل عام - أنّ للعرش تفسيراً آخر بالإضافة إلى التّفسير السابق الذي ذكرناه سابقاً - وهو (صفات الله) - صفات مثل (العلم) و (القدرة)، وبناءً على هذا، فإنّ حملة العرش الإلهي هم حملة علمه، وكلّما كان الإنسان أو الملك أكثر علماً، كان له سهم أكبر في حمل العرش العظيم.

ومن هنا فإنّ هذه الحقيقة تتبلور بصورة أفضل وهي: أنّ العرش ليس تختاً جسمانياً يشبه تخوت السلاطين، بل له معان عديدة كنائية مختلفة إذا استعمل منسوباً إلى الله تعالى.

2 - مقام الإمام علي

(ع) وشيعته

جاء في روايات عديدة أنّ الآية: (فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه...) نزلت في حقّ الإمام علي (ع) وشيعته(252).

3 - جواب على سؤال

والسؤال المطروح هو: هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم - طبقاً لما جاء في الآية الكريمة: (فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه) - تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن رسول الله (ص) حيث يقول: "يدني الله العبد يوم القيامة، فيقرره بذنوبه كلّها، حتى إذا راى أنّه قد هلك قال اللّه تعالى: إنّي استرتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثمّ يعطى كتاب حسناته بيمينه"(253).

وقال البعض أيضاً: إنّ الله تعالى يبدّل سيّئات المؤمنين في ذلك اليوم إلى (حسنات) وبذلك لا تبدو أي نقطة سوداء في صحائف أعمالهم.