الآيات 13 - 17

﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمَـنِيَةٌ (17)﴾

التّفسير:

الصّيحة العظيمة:

استمراراً لما تعرّضت له الآيات الاُولى من هذه السورة، والتي كانت تتعلّق بمسألة الحشروالقيامة، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب باُسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علماً بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب.

يقول تعالى في البداية: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة).

لقد بيّنا فيما سبق أنّ ممّا يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجىء عظيم، وذلك ما عبّر عنه بـ (نفخة الصور).

ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للإستفادة منه في جمع وتهيئة الجيوش، وكذلك في الإعلان عن موعد الإستراحة، حيث يتمّ العزف بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع.

الذي يعلن عنه، فالعزف للنوم والإستراحة يختلف عن عزف التجمّع والتهيّؤ للحركة والتدريب... إنّ مسألة انتهاء هذا العالم، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة، هي عند الله بسيطة وهيّنة في مقابل قدرته العظيمة، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي ويفنى من في السموات والأرضين، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة ويستعدّون للحساب، وهذا هو مقصود الآية الكريمة.

لقد تحدّثنا بصورة مفصّلة حول خصوصيات (الصور) وكيفية (النفخ) فيه، وعدد النفخات، والفاصلة الزمنية بين كلّ نفخة، وذلك في تفسير سورة (الزمر) الآية 68 من التّفسير الأمثل، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك.

والشيء الوحيد الذي نذكّر به هنا هو (نفخة الصور) وكما أشرنا أعلاه فهي (نفختان): (نفخة الموت)، و (نفخة الحياة الجديدة)، لكن هل المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاُولى) أم (الثانية)؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحّد بين المفسّرين، لأنّ الآيات التي ستأتي لاحقاً بعضها يتناسب مع نفخة الموت، والآخر يتناسب مع نفخة الحياة والحشر، إلاّ أنّ منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا تتناسب أكثر مع النفخة الاُولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثمّ يضيف تعالى: (وحملت الأرض والجبال فدكتّا دكة واحدة).

"دكّ" كما يقول الراغب في المفردات، وفي الأصل بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتّى تستوي، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى "الدق الشديد".

كما يستفاد من مصادر اللغة أنّ أصل معنى (دك) هو (الدقّ والتخريب) ولازم ذلك الإستواء، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضاً(239).

وعلى كلّ حال فإنّ المقصود من هذه الكلمة - في الآية مورد البحث - هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات.

ثمّ يضيف تعالى: (فيومئذ وقعت الواقعة).

في ذلك اليوم العظيم لا تتلا شى فيه الأرض والجبال فحسب، بل يقع حدث عظيم آخر، وذلك قوله تعالى: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وذلك بيان لما تتعرّض له، الأجرام السماوية العظيمة من إنفلاقات وتناثر وتلاشي، حيث تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحوّل فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى ضعف، والإستحكام إلى خواء بشكل عجيب.

وذلك من خلال حركات وتحوّلات مرعبة جدّاً، كما يعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردةً كالدهان) الرحمن (37).

وبعبارة اُخرى فإنّ الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان، ويحدث عالم جديد على أنقاض العالم السابق يكون أكمل وأتمّ وأعلى من عالمنا الدنيوي.

(والملك على أرجائها).

"أرجاء" جمع (رجا) بمعنى جوانب وأطراف شيء معيّن، و (الملك) هنا بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد، إلاّ أنّ المقصود بها هو الجنس والجمع.

إنّ ملائكة الرحمن - في الآية أعلاه - يصطفون على جوانب وأطراف السماوات ينتظرون تلقّي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة، وكأنّهم جنود جاهزون لما يؤمرون به.

ثمّ يقول تعالى: (ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية).

إنّ حملة العرش بالرغم من أنّهم لم يشخّصوا بصورة صريحة في هذه الآية وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر؟ إلاّ أنّ ظاهر تعبير الآية الكريمة أنّهم من الملائكة، ومن غير المعلوم أنّ المقصود بـ (ثمانية) هل هم ثمانية ملائكة؟ أم ثمانية مجاميع من الملائكة؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة.

جاء في الروايات الإسلامية أنّ حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص أو أربع (مجاميع) إلاّ أنّهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك، كما نقرأ ذلك في حديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: (إنّهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية)(240).

أمّا ما يتعلّق بحقيقة العرش، وماهية الملائكة، فذلك كما يلي:

المقصود بـ (العرش) كما هو واضح ليس تختاً ممّا يكون للسلاطين، ولكنّه - كما بيّنا سابقاً في تفسير كلمة (العرش) - بأنّها تعني (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة الله سبحانه، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وجاء في رواية اُخرى أنّ حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين، والأشخاص الأوّلون الأربعة هم: (نوح) و (إبراهيم)، و (موسى)، و (عيسى)، أمّا الأشخاص الآخرون الأربعة فهم (محمّد) و (علي) و (الحسن)، و (الحسين)(241).

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين، والشفاعة - عادةً - تكون لمن هم أهل لها، وممّن لهم لياقة لنيلها، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

أمّا إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع، فمن الطبيعي أن تتعهّد المجاميع للقيام بهذه المهمّة، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء، وممّا تقدّم نلاحظ أنّ قسماً من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمّة الملائكة وقسم من الأنبياء، حيث أنّ الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله، ويتحرّك بإرادته تعالى.

هنالك آراء في أنّ الضمير في (فوقهم) هل يرجع إلى "البشر"؟ أم إلى (الملائكة)؟ وبما أنّ الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة، فإنّ الضمير يرجع إليهم حسب الظاهر، وبهذه الصورة فإنّ الملائكة تحيط بالعالم من جميع جهاته، ولهذا فإنّ المقصود بـ (من فوقهم) هو (العلو من حيث المقام).

وهنالك احتمال بأنّ حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة، وتماشياً مع هذا الإحتمال فإنّ ما جاء في الحديث السابق منسجم معه، حيث ورد فيه أنّ حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء.

وبما أنّ الحوادث المتعلّقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم المحدود، لذا فليس بمقدورنا إذاً إدراك المسائل المتعلّقة بحملة العرش في ذلك اليوم.

إنّ الذي نتحدّث به عن هذه الاُمور ما هو إلاّ شبح يتراءى لنا من بعيد في ظلّ الآيات الإلهية، وإلاّ فلا تتمّ رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع(242).

وممّا يجدر ملاحظته أنّ في (النفخة الاُولى للصور) يموت ويفنى جميع من في السموات والأرض، وبناءً على هذا فإنّ مسألة بحث "حملة العرش" مرتبط "بالنفخة الثانية"، حيث يتمّ إحياء الجميع، وبالرغم من أنّه لم يأت ذكر للنفخة الثانية في الآية أعلاه، إلاّ أنّ ذلك يتّضح من خلال القرائن، والمطالب التي سترد في الآيات اللاحقة تتعلّق بالنفخة الثانية أيضاً(243).