الآيات 9 - 12

﴿وَجَآءَ فِرْعُوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَـتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَـكُمْ فِى الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَعِيَةٌ (12)﴾

التّفسير:

أين الآذان الواعية؟

بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاُخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درساً وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم...

يقول تعالى (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة).

الـ "خاطئة" بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

الـ "المؤتفكات" جمع (مؤتفكة) من مادّة (ائتفاك) بمعنى الإنقلاب، وهي هنا إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط، حيث إنقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود بـ (ومن قبله) هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون، كقوم شعيب، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

ثمّ يضيف تعالى: (فعصوا رسول ربّهم فأخذهم أخذةً رابية).

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) (عليهما السلام) وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة... وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط (ع) الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم... وهكذا كان - أيضاً - موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول، والتشكيك والإعراض والتحدّي... إنّ كلّ مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردّين قد إبتلاهم الله بنوع من العذاب، وأنزل عليه رجزاً من السماء بما يستحقّون، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدراً لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم، وقوم لوط سلّط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثمّ (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

"رابية" و (ربا) من مادّة واحدة، وهي بمعنى الإضافة، والمقصود بها هنا العذاب الصعب والشديد جدّاً.

لقد جاء شرح قصّة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم، وجاءت بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية (10 - 68) يراجع التّفسير الأمثل، وكذلك في سورة الأعراف من الآية (103 - 137) راجع التّفسير الأمثل، وكذلك في سورة طه من الآية (24 - 79) راجع التّفسير الأمثل.

وجاءت قصّة لوط أيضاً في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في سورة الحجر الآية (61 - 77) في التّفسير الأمثل.

وأخيراً تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم، قال تعالى: (إنّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية).

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّاً وكأنّه السيل ينحدر من السماء، وفاضت عيون الأرض، والتقت مياههما بحيث أصبح كلّ شيء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم... ) ولم تنج إلاّ مجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح (ع) في سفينته.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق، وإلاّ ما كنّا في عالم هذا الوجود(237).

ثمّ يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب، حيث يقول تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اُذن واعية).

إنّنا لم نرد الإنتقام منكم أبداً، بل الهداية والخير والسعادة، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

"تعيها" من مادّة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات، و (ابن منظور) في لسان العرب: إنّها في الأصل بمعنى الإحتفاظ بشيء معيّن في القلب، ومن هنا قيل للإناء (وعاء) لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

والإنسان تارةً يسمع كلاماً إلاّ أنّه كأن لم يسمعه، وفي التعبير السائد: يسمع باُذن ويخرجه من الاُخرى.

وتارةً اُخرى يسمع الكلام ويفكّر فيه ويتأمّله.

ويجعل ما فيه خير في قلبه، ويعتبر الإيجابي منه مناراً يسير عليه في طريق حياته... وهذا ما يعبّر عنه بـ (الوعي).

تعقيب

1 - فضيلة اُخرى من فضائل الإمام علي (ع)

جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة - أعمّ من كتب التّفسير والحديث - أنّ رسول الله (ص) قال عند نزول الآية أعلاه (وتعيها اُذن واعية): "سألت ربّي أن يجعلها اُذن علي"، وبعد ذلك كان يقول الإمام علي (ع): "ما سمعت من رسول الله شيئاً قطّ فنسيته، إلاّ وحفظته"(238).

ونقل في (غاية المرام) ستّة عشر حديثاً في هذا المجال عن طريق الشيعة وأهل السنّة، كما ينقل (المحدّث البحراني) أيضاً في تفسير (البرهان) عن (محمّد بن عبّاس) ثلاثين حديثاً في هذا المجال نقلت عن طريق العامّة والخاصّة.

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي (ع) حيث يكون موضع أسرار الرّسول، ووارث علمه (ص)، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه - الموافق له والمخالف - بعد رسول الله (ص) وذلك عندما يواجهون المشاكل الإجتماعية والعلمية المختلفة، ويطلبون منه التدخّل في حلّها، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

2 - التناسب بين (الذنب) و (العقاب)

وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد العذاب الذي سلّط على قوم ثمود، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي حلّ بقوم عاد، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير (الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلّق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم نوح ...والملاحظ من التعبيرات السابقة أنّها جميعاً تشترك في مفهوم واحد وهو: (الطغيان والتمرّد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعاً أي إنّ عذاب هؤلاء الطغاة تحقّق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعمّ من الماء والهواء والتراب والنار.

كما أنّ هذه التعبيرات - أيضاً - تؤكّد على حقيقة مهمّة، وهي أنّ العقوبات التي نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلاّ تجسيد لحقيقة أعمالنا، وأنّ أعمالنا نحن البشر تعود علينا خيراً كانت أم شرّاً.