الآيات 4 - 7

﴿وَالَّـئِى يَئِسْنَ مِنَ الَْمحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـثَةُ أَشْهُرِ وَالَّـئِى لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَـتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً(5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَـتِ حَمْل فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوف وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءَاتَـهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءَاتَـهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْر يُسْراً (7)﴾

التّفسير:

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ:

من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدّة بعد الطلاق، ولمّا كانت الآية (228) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدّة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها.

فقد ذكرت الآيات محلّ البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معيّنة، أو الحوامل لتكمل بحث العدّة.

يقول تعالى في بداية الأمر: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهنّ ثلاثة أشهر) فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدّة حينئذ ثلاثة أشهر، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهنّ العادة الشهرية بعد (واللائي لم يحضن).

ثمّ يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا: (واُولات الأحمال أجلهنّ حتّى يضعن حملهنّ).

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهنّ ثلاثة أشهر، والمجموعة الثالثة - أي النساء الحوامل - تنتهي عدتهنّ بوضع الحمل، سواء كان بعد ساعة من الطلاق، أو بعد ثماني أشهر مثلا.

وقد ذكرت ثلاثة إحتمالات في معنى عبارة (إن ارتبتم):

1 - الشكّ في وجود "الحمل" بمعنى أنّه هناك إحتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات، وستّون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الإحتمال الضعيف الذي نادراً ما يقع، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر(99).

2 - النساء اللائي لا يعلم بأنّهنّ وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا.

3 - المراد هو الشكّ في حكم هذه المسألة، فحكمها كما ورد في هذه الآية.

ويبدو أنّ الأنسب والأقرب هو التّفسير الأوّل فإنّ التعبير بـ (واللائي يئسن... ) يوحي أنّ هؤلاء النساء قد بلغن سنّ اليأس.

ويشار إلى أنّ حكم النساء اللائي غابت عنهنّ العادة الشهرية لمرض أو غيره هو نفس حكم اليائسات، أي يعدّدن ثلاثة أشهر (يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية)(100).

جملة (واللائي لم يحضن) يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن سنّ البلوغ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية.

وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن عدّتهنّ ثلاثة أشهر.

واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة الشهرية، سواءً بلغن سنّ اليأس أم لا.

غير أنّ المشهور بين فقهائنا أن لا عدّة للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهنّ سنّ البلوغ.

ويوجد من خالف هذا الرأي واستدلّوا على ذلك ببعض الروايات، كما أنّ ظاهر الآية يوافقهم.

(للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية)(101).

وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أنّ "أُبي بن كعب" سأل الرّسول (ص) عن أنّ القرآن لم يذكر عدّة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات "اليائسات" والحوامل فنزلت السابقة تبيّن أحكامهنّ(102).

ويذكر أنّ العدّة في هذا المورد إنّما تكون في حقّ النساء اللائي يحتمل في حقّهنّ الحمل، لأنّهنّ ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات، ومعنى ذلك أنّ حكمهنّ واحد(103).

وأخيراً يؤكّد مرّة اُخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى: (ومن يتقّ الله يجعل له من أمره يسراً).

ييسّر اُموره ويسهّلها في هذا العالم، وكذلك في العالم الآخر، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضيّة الطلاق أو في قضايا اُخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدّة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلا: (ذلك أمر الله أنزله إليكم).

(ومن يتّق الله يكفّر عنه سيّئاته ويعظم له أجراً).

قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من "السيّئات" هنا "الذنوب الصغيرة" والمقصود من "التقوى" إجتناب الذنوب الكبيرة.

وبناءً على ذلك فإنّ تجنّب الكبائر يؤدّي إلى غفران الصغائر، كما جاء في الآية 31 من سورة النساء.

ولازم هذا أنّ مخالفة الأحكام في هذا المجال - أي في الطلاق والعدّة - يعدّ من الذنوب الكبيرة(104).

ورغم أنّ السيّئات تطلق أحياناً على الذنوب الصغيرة، كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم، ولكنّها تطلق في آيات اُخرى على كلّ الذنوب أعمّ من الصغيرة والكبيرة، نقرأ في الآية 65 من سورة المائدة: (ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا لكفّرنا عنهم سيّئاتهم) "وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات اُخر".

ومن المسلّم أنّ الإيمان والإسلام يؤدّيان إلى غفران الذنوب السابقة.

وتعطي الآية اللاحقة توضيحاً أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق، من حيث "السكن" و "النفقة" واُمور اُخرى.

يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات: (أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم).

"وجد" على وزن (حكم)، بمعنى القدرة والتمكّن، وذكر المفسّرون تفاسير اُخرى ترجع في النتيجة إلى نفس المعنى، إذ يقول الراغب في المفردات: إنّ التعبير بـ (من وجدكم) يعني بما تستطيعون وبما تقدرون عليه، وبمعنى اختاروا مسكناً مناسباً قدر الإمكان للنساء المطلّقات.

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته، فإنّ الاُمور الاُخرى من الإنفاق ستقع هي الاُخرى على عاتق الزوج، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدّث عن نفقة النساء الحوامل.

ثمّ يتطرّق تعالى لذكر حكم آخر (ولا تضاروهنّ لتضيّقوا عليهن).

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور، ممّا يؤدّي إلى إخراجكم عن جادّة الحقّ، فتحرمونهنّ حقوقهنّ الطبيعية في السكن والنفقة، وتجعلوهنّ تحت ضغوط لا يستطعن معها إلاّ الهرب وترك كلّ شيء.

يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل (وإن كنّ اُولات حمل فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ).

فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدّة يستحقّنّ النفقة والسكن على الزوج.

ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات (فإن أرضعن لكم فآتوهنّ اُجورهنّ).

اُجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع، وطبقاً لما هو معروف وشائع عرفاً.

ونظراً لأنّ الأطفال كثيراً ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال: (وأتمروا بينكم بمعروف) وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم.

ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة، ممّا يترك عليهم آثاراً واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي، إذ يحرمون من حنان الاُمّ والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان الله تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

وجملة "وأتمروا" من مادّة "ايتمار" وتأتي أحياناً بمعنى "قبول الأمر" وأحياناً اُخرى بمعنى "التشاور" والمعنى الثاني أقرب إلى معنى الآية.

والتعبير "بمعروف" تعبير جامع يشمل كلّ مشاورة فيها خير وصلاح.

وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضيّة إرضاعهم، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال (وإن تعاسرتم فسترضع له اُخرى).

إشارة إلى أنّ الخلافات إذا طالت وتعقّدت فأعطوا الأطفال إلى مرضعة اُخرى، ورغم أنّ الاُمّ هي الأولى بذلك، لكن إذا بقي الأطفال ينتظرون، وظلّ النزاع على حاله، فلا ينبغي أن ينسى الأطفال في خضم هذا النزاع.

وتبيّن الآية اللاحقة سابع - وآخر حكم - في هذا المجال حيث يقول تعالى:

(لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه الله لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها).

فهل أنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدنّ رضاعة أطفالهنّ بعد الفرقة والطلاق، أو أثناء العدّة التي اُشير إليها بصورة إجمالية في الآيات السابقة، أو أنّه يرتبط بكليهما معاً.

ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب وأقرب، رغم أنّ بعض المفسّرين اعتبرها خاصّة بالنساء المرضعات فقط في الوقت الذي أطلقت الآيات السابقة على هذا الأمر تعبير "أجر" وليس "نفقة وإنفاق".

على كلّ حال لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الاُمور، كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلاّ بالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحقّ للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.

وبناءً على هذا فالذين لديهم المقدرة والإستطاعة ثمّ يبخلون بها فإنّهم يستحقّون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئاً.

وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله: (سيجعل الله بعد عسر يسراً) أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سبباً لخروجكم عن الطريق السوي، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون ضنكاً مادياً وعوزاً في متطلّبات الحياة، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشّر الصابرين.

ولم تمض فترة طويلة حتّى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته.

بحوث

1 - أحكام الطلاق الرجعي

قلنا أنّه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته خلال فترة العدّة إلى آخر يوم منها، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه، والطريق إلى ذلك سهل يسير يمكن أن يتمّ بأي حديث أو عمل يشمّ منه رائحة العودة ويدلّ على الرجوع في العلاقة الزوجية، وقد اختصّت بعض الأحكام التي وردت في الآيات أعلاه مثل "النفقة" و "السكن" بحالة الطلاق الرجعي، يضاف إلى ذلك عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدّة، فإنّها أيضاً من مختّصات الطلاق الرجعي أمّا الطلاق البائن غير القابل للرجوع، (كالطلاق للمرّة الثالثة) فإنّه غير مشمول بتلك الأحكام.

أمّا حقّ النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل.

والتعبير بـ (لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً) إشارة إلى أنّ كلّ الأحكام السابقة - أو بعضها - مرتبط بالطلاق الرجعي(105).

2 - لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها

ليس العقل وحده يحكم بذلك، وإنّما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على ذلك.

أي أنّ تكاليف البشر ومسؤولياتهم إنّما هي بقدر طاقاتهم وتعبير (لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها) التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ المقصود بـ (ما آتاها) هو "ما أعلمها" أي أنّ الله يكلّف الناس بقدر ما أعلمهم به.

ولذا استدلّ بهذه الآية على إثبات "أصل البراءة" في مباحث علم الاُصول، فمن لا يعلم حكماً ليس عليه مسؤولية تجاه ذلك الحكم.

ونظراً لأنّ عدم الإطّلاع يؤدّي أحياناً إلى عدم المقدرة، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدراً للعجز.

وبناءً على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدّي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.

3 - أهميّة النظام العائلي

إنّ الدقّة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ وباقي الجزئيات المتعلّقة في هذا المجال، الواردة في آيات قرآنية اُخرى، تمثّل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل.

كلّ ذلك يبرز الأهميّة الخاصّة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية حقوق المرأة والأبناء.

فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان، ويحاول إستئصال جذور هذا العمل البغيض، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود وأصبح الطلاق والإنفصال هو العلاج الوحيد، عندها يحذّر من ضياع حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحيّة هذا النزاع، حتّى أنّه شرع حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالباً.

إنّ أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف، وكذلك عدم الإضرار والتضييق على النساء والتشدّد في أمرهنّ، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال، وما إلى ذلك كلّها شواهد على ذلك.

غير أنّ عدم إطّلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها، أو إعراضهم عن الإلتزام بها رغم علمهم، أدّى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق، وخاصّة في شأن الأطفال.

وذلك نتيجة إبتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي الذي هو القرآن.

فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من بيت الزوج في أيّام العدّة، ولا يحقّ للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة المحدّدة ممّا يؤدّي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة الزوجية، نرى قلّة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق، وهذا ما يدعو إلى الأسف حقّاً.