الآيات 9 - 11
﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـلِحِينَ (10)وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)﴾
التّفسير:
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم!
إنّ حبّ الدنيا والتكالب على الأموال والإنشداد إلى الأرض، من الأسباب المهمّة التي تدفع باتّجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة (ياأيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاُولئك هم الخاسرون).
ورغم أنّ الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله وتحصيل رضوانه، لكنّها يمكن أن تتحوّل إلى سدّ يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلّق به الإنسان بشكل مفرط.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (ع) يجسّد هذا المعنى بأوضح وجه "ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع، هذا في أوّلها وهذا في آخرها، بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن"(60).
اختلف المفسّرون في معنى "ذكر الله" ففسّرها البعض بأنّه الصلوات الخمس، وقال آخرون: إنّه شكر النعمة والصبر على البلاء والرضى بالقضاء، وقيل: إنّه الحجّ والزكاة وتلاوة القرآن، وقيل أنّه كلّ الفرائض.
ويبدو أنّ لـ (ذكر الله) معنى واسعاً يشمل كلّ تلك المصاديق.
ولهذا وصف القرآن الكريم اُولئك الذين يرحلون عن الدنيا دون أن يستثمروا نعم الله في بناء الحياة الخالدة وتعمير الآخرة بأنّهم "الخاسرون" فقد خرجوا من هذه الدنيا وهم منشغلون بالأموال والاُمور الزائلة التي لا بقاء ولا دوام لها.
بعد هذا التحذير الشديد يأمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول: (وأنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن من الصالحين)(61).
والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبّة، رغم قول البعض بأنّها تعني التعجيل في دفع الزكاة.
والطريف أنّه جاء في ذيل الآية (فأصدّق وأكن من الصالحين) لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان، وإن فسّره البعض بأنّه أداء "مراسم الحجّ" كما عبّرت بعض الروايات عن نفس هذا المعنى فهو من قبيل ذكر المصداق البارز.
وأراد القرآن أن يلفت الأنظار إلى أنّ الإنسان لا يقول هذا الكلام بعد الموت، بل عند الموت والإحتظار، إذ قال: (من قبل أن يأتي أحدكم الموت).
وقال (ممّا رزقناكم) ليؤكّد أنّ جميع النعم - وليس الأموال فقط - هي من عند الله، وأنّها ستعود إليه عمّا قريب، فلا معنى للبخل والحرص والتقتير.
على أي حال فإنّ هناك عدداً كبيراً من الناس يضطربون كثيراً حينما يجدون أنفسهم على وشك الإنتقال إلى عالم البرزخ، والرحيل عن هذه الدنيا، وترك كلّ ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة.
عندئذ يتذكّر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيراً وعابراً، ليعوّضوا ما فات، ويأتيهم الجواب (ولن يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها).
وفي الآية 34 من سورة الأعراف (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
ثمّ تنتهي الآية بهذه العبارة (والله خبير بما تعملون) فقد سجل كلّ شيء عنكم وستجدونه محضراً من ثواب وعقاب.
تعقيب
1 - طريقة التغلّب على الإضطرابات والقلق
جاء في أحوال الشيخ والعالم الكبير "عبدالله الشوشتري" وهو من معاصري العلاّمة "المجلسي" أنّه كان يحبّ ولده كثيراً، فاتّفق أنّه مرض مرضاً شديداً، فلمّا حضر أبوه المرحوم الشيخ عبدالله إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة كان مشدوه البال مشتّت الشعور - وحينما بلغ قوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) في سورة المنافقون أخذ يكرّرها مرّات عديدة، وحينما سئل بعد الفراغ عن سبب ذلك قال: لقد تذكّرت ولدي حينما بلغت هذا المقطع من السورة، فجاهدت نفسي وروّضتها بتكرار هذه الآية إلى الحدّ الذي اعتبرته ميّتاً وكأنّ جثمانه أمامي فانصرفت من الآية(62).
2 - النفاق العقائدي والنفاق العملي
للنفاق معنى واسع يشمل كلّ أنواع إختلاف الظاهر عن الباطن، ومصداقه البارز هو النفاق العقائدي الذي تتحدّث عنه سورة المنافقون.
أمّا النفاق العملي فهو وصف لحالة بعض الناس المؤمنين بالإسلام حقّاً، ولكنّهم يرتكبون أعمالا تناقض إعتقادهم، كالكذب ونقض العهد وخيانة الأمانة.
جاء في رواية عن الرّسول (ص) "ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً، وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف"(63).
وفي حديث آخر عن الرّسول (ص) "ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق"(64).
وفي حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (ع) "إنّ المنافق ينهى ولا ينتهى، ويأمر بما لا يأتي"(65).
اللهمّ، إنّ دائرة النفاق واسعة، ولا نجاة لنا منه دون لطفك ورحمتك فأعنّا على ذلك.
ربّنا، اجعلنا من الذين لا تأكلهم الحسرة عند توديعهم لهذه الدنيا.
اللهمّ، إنّ العزّة لك ولأوليائك، وخزائن السموات والأرض لك لا لغيرك.
فأنزل علينا من بركاتك، ولا تحرمنا من فيض خزائنك.
أمين ياربّ العالمين
نهاية سورة المنافقين