الآيات 7 - 9

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلَـمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ (8) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)﴾

التّفسير:

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم:

لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرّسول الأعظم (ص) رغم ما بشّر به المسيح (ع) حول ظهور رسول الإسلام، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة.

وتبيّن الآيات - مورد البحث - عاقبة هؤلاء ومصيرهم السيء ونتيجة عملهم الخائب.

فيقول تعالى: (ومن أظلم ممّن افترى على الله الكذب وهو يعدى إلى الإسلام).

نعم، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرّسول الإلهي، الذين يعتبرون ما يأتي الرّسول به من إعجاز سحراً، وما يتحدّث به من مبادىء إلهية سامية ضلالا وباطلا... فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحقّ والهداية والنجاة، ويصدّون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: (والله لا يهدي القوم الظالمين).

إنّ عمل الله سبحانه هو الهداية للحقّ، وإنّ ذاته المقدّسة الطاهرة هي النور والضياء السامي: (الله نور السماوات والأرض) ولابدّ للهداية من إستعداد وأرضية مناسبة في النفس الإنسانية كي تؤثّر فيها، وهذا ما لا يحصل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يجانبون الحقّ ويعرضون عن الحقيقة ويعادونها.

والآية الكريمة تؤكّد مرّة اُخرى على حقيقة أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّها من الله سبحانه، إلاّ أنّ مقدّماتها وأرضيتها لابدّ أن تبدأ من الإنسان نفسه، ولذا فلا جبر هنا.

جملة "وهو يدعى إلى الإسلام" إشارة إلى أنّ دعوة النبي الأكرم تتضمّن السلام في الدنيا والآخرة ونجاة الناس، ومع ذلك فمثل هذا الإنسان يحطّم أساس سعادته بيده.

لقد تكرّرت عبارة (من أظلم) خمس عشر مرّة في القرآن الكريم وكانت آخرها في الآية مورد البحث، بالرغم من أنّ ذكرها كان في موارد مختلفة حسب الظاهر.

ولعلّ هذه المسألة كانت منشأ لهذا التساؤل، وهو: هل من الممكن أن يكون (أظلم الناس) يمثّل أكثر من صنف أو أكثر من جماعة، وأنّها جاءت متكرّرة بلحاظ تعدّد أقسام الظالمين؟

إنّ الملاحظة الدقيقة للآيات الكريمة تبيّن لنا أنّ السبب الأساس لذلك يرجع إلى مسألة منع الناس عن طريق الحقّ، وتكذيب الآيات الإلهية، وهذا هو منتهى الظلم، كما أنّ الصدّ عن الوصول إلى الهدى والسعادة الأبدية وقيم الخير، يمثّل أسوأ عمل وأعظم ظلم، حيث المنع عن الخير كلّه وفي كافّة المجالات.

ثمّ يستعرض القرآن الكريم نقطة اُخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحقّ ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادىء السماء والأنوار الإلهيّة العظيمة، حيث يقول سبحانه: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون).

وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثاً إطفاء نور الشمس التي تضيء العالم كلّه بنفخة، إنّهم كالخفافيش التي تتصوّر أنّها قادرة على تحدّي وهج الشمس وأشعّتها الساطعة بالنوم نهاراً بعيداً عن نورها، والظهور في ظلمة الليل وعتمته.

وتأريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبّؤ القرآني العظيم، فرغم ضخامة المؤامرات التي حيكت ضدّه والجهود الجبّارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأوّل لظهوره إلى يومنا هذا ... فإنّ جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح... وقد عمد هؤلاء إلى أساليب عدّة في حربهم القذرة ضدّ الإسلام:

فتارةً اتّبعوا اُسلوب الأذى والسخرية.

واُخرى عن طريق الحصار الإقتصادي والإجتماعي... وثالثة فرض الحروب، كـ (أُحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية لذلك.

ورابعة عن طريق التآمر الداخلي، كما كان عمل المنافقين.

وأحياناً عن طريق إيجاد الإختلافات في داخل الصفّ الإسلامي.

وأحياناً اُخرى الحروب الصليبية.

وتارةً إحتلال الأراضي كما في القدس المقدّسة قبلة المسلمين الاُولى.

وأحياناً إعتماد اُسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة تربو على الأربعين جزءاً.

وتارةً التأثير على شباب هذه الاُمّة وإضعاف متبنّياتها المبدئية والسلوكية بعيداً عن الإلتزام بخطّها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية.

وتارةً تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة وسائل الميوعة والإنحراف خاصّة بين الشباب.

وتارةً السيطرة الإستعمارة عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً.

إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة.

إلاّ أنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد (ص)، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية... بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات، حيث أنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمرّ رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (المادّيين الشرقيين).

نعم، إنّهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله شأناً غير ذلك.

وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ هذا المضمون قد ورد مرّتين في القرآن الكريم، ولكن مع قليل من الإختلاف، حيث جاء في الآية (32) من سورة التوبة كالتالي: (يريدون أن يطفئوا) وهنا جاء بعبارة: (يريدون ليطفئوا).

يقول: الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الإختلاف: إنّ الآية الاُولى إشارة إلى الإطفاء بدون مقدّمة، إلاّ أنّه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء باستعمال المقدّمات التي تهيء الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر.

وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآيتين يبيّن عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من قبل أعداء الإسلام، سواء هيّأوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيّئوا.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية - مورد البحث - حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزّوجلّ: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون).

إنّ التعبير بـ (أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ) بمنزلة بيان الرمز لغلبة الإسلام وإنتصاره، لأنّ طبيعة "الهداية" و (دين الحقّ) تنطوي على هذا الإنتصار، ذلك أنّ الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حلّ.

وكراهية الكفّار والمشركين لن تستطيع أن تغيّر من هذه الحقيقة شيئاً، ولا تقف في طريق مسيرته العظيمة.

ومن الظريف أيضاً أنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم ثلاث مرّات بتفاوت يسير:

الاُولى: كانت في سورة التوبة الآية (33).

والثانية: في سورة الفتح الآية (38).

والأخيرة: في هذه السورة "الصفّ".

ويجب ألاّ ننسى أنّ هذا التأكيد والتكرار جاء في وقت لم يكن الإسلام قد ثبت واستقرّ في الجزيرة العربية بعد، فكيف بنا مع هذه الآيات وقد وصل الإسلام إلى نقاط عديدة في العالم وشمل أصقاعاً مختلفة؟

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاُخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء، واكتسح مناطق واسعة من العالم، وهو الآن في تقدّم مستمر، وقوّة يخشى منها عالميّاً.

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه.

إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصّلة في تفسير الآية (23) من سورة التوبة حول المقصود من هذه الآية المباركة، وهل هو الغلبة والإنتصار المنطقي، أم غلبة القدرة والقوّة على الأعداء؟ وكذلك حول مدى إرتباط هذا الإنتصار وتلك الغلبة بظهور الحجّة (ع).