الآيات 1 - 4
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2)كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـنٌ مَّرْصُوصٌ (4)﴾
سبب النّزول:
ذكر المفسّرون أسباباً عديدة لنزول الآية الشريفة: (لِمَ تقولون ما لا تفعلون)بتفاوت يسير فيما ذكروه، وممّا جاء في أقوالهم ما يلي:
1 - أنّ الآية الكريمة نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يقولون: إذا لقينا العدوّ لن نفرّ ولن نرجع عنهم، إلاّ أنّهم لم يفوا بما قالوا يوم "اُحد" حتّى شجّ وجه الرّسول (ص) وكسرت رباعيته المباركة.
2 - بعد بيان الباريء عزّوجلّ الثواب العظيم لشهداء بدر، قال بعض الصحابة: ما دام الأجر هكذا فإنّنا سوف لن نفرّ في الغزوات المقبلة، إلاّ أنّهم فرّوا في غزوة اُحد، فنزلت الآية أعلاه موبّخة لهم.
3 - دعا بعض المؤمنين قبل نزول حكم الجهاد أن يرشدهم الله إلى أفضل الأعمال ليعملوا بها ولم يمض وقت طويل حتّى أخبرهم الله سبحانه بأنّ (أفضل الأعمال الإيمان الخالص والجهاد في سبيله) إلاّ أنّهم لم يتفاعلوا مع هذا التوجيه، وتعلّلوا فنزلت الآية تلومهم وتوبّخهم على موقفهم هذا(1).
التّفسير:
المقاتلون المؤمنون صفّ حديدي منيع:
إعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح الله في بدايتها: (سبّح لله ما في السموات وما في الأرض)(2).
ولِمَ لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كلّ عيب ونقص: (وهو العزيز الحكيم)القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكلّ شيء علماً.
إنّ الإلتفات إلى مسألة التسبيح العامّ للكائنات، الذي يتمّ بلسان الحال والقال، وكذلك النظام المدهش العجيب الحاكم فيها والذي هو أفضل دليل على وجود خالق عزيز حكيم... من شأنه تمكين اُسس الإيمان في القلوب، ومن شأنه أيضاً تمهيد الطريق لأمر الجهاد.
ثمّ يضيف الباريء عزّوجلّ في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم: (ياأيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون)(3).
وعلى الرغم من أنّ سبب نزول الآية كما مرّ بنا كان متعلّقاً بالجهاد في سبيل الله، وما حدث من فرار في غزوة اُحد، ولكن يستفاد من الآية سعة المفهوم الذي تعرّضت له، وبهذا تستوعب كلّ قول لا يقترن بعمل ويستحقّ اللوم والتوبيخ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المخاطب في هذه الآيات هم المتظاهرون بالإيمان والمنافقون، مع أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى الذين آمنوا، كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل وأعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.
ثمّ يضيف سبحانه مواصلا القول: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)(4) حيث التصريحات العلنية في مجالس السمر والإدّعاء بالشجاعة، ولكن ما أن تحين ساعة الجدّ إلاّ ونلاحظ الهروب والنكوص والإبتعاد عن تجسيد الأقوال المدّعاة.
إنّ من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الإنسجام التامّ بين أقواله وأعماله وكلّما إبتعد الإنسان عن هذا الأصل، فإنّه يبتعد عن حقيقة الإيمان.
"المقت" في الأصل: (البغض الشديد لمن إرتكب عملا قبيحاً) وكان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه.
وفي الجملة السابقة نلاحظ إقتران مصطلح "المقت" مع "الكبر"، والذي هو دليل أيضاً على الشدّة والعظمة، كما هو دليل على الغضب الإلهي الشديد على من يطلقون أقوالا ولا يقرنونها بالأعمال.
يقول المرحوم العلاّمة الطباطبائي في الميزان: فرق بين أن يقول الإنسان شيئاً لا يريد أن يفعله، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله.
فالأوّل دليل النفاق، والثاني دليل ضعف الإرادة(5).
وتوضيح ذلك أنّ الإنسان الذي يقول شيئاً لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما، ولكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.
وعلى كلّ حال، فمفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد، سواء تعلّق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون، حتّى أنّ البعض قال: إنّها تشمل حتّى النذور.
ونقرأ في رسالة الإمام علي (ع) لمالك الأشتر أنّه قال: "إيّاك... أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك... والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)"(6).
كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق أنّه (ع) قال: "عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله: (ياأيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)"(7).
ثمّ تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمّة للغاية في التشريع الإسلامي، وهي موضوع الجهاد في سبيل الله، حيث يقول تعالى: (إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيان مرصوص)(8).
ونلاحظ هنا أنّ التأكيد ليس على القتال فحسب، بل على أن يكون "في سبيله" تعالى وحده، ويتجسّد فيه - كذلك - الإتّحاد والإنسجام التامّ والتجانس والوحدة، كالبنيان المرصوص.
"صف" في الأصل لها معنى مصدري بمعنى (جعل شيء ما في خطّ مستو) إلاّ أنّها هنا لها معنى (اسم فاعل).
"مرصوص" من مادّة (رصاص) بمعنى معدن الرصاص، ولأنّ هذه المادّة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل إستحكامه وجعله قويّاً ومتيناً للغاية، لذا اُطلقت هذه الكلمة هنا على كلّ أمر قوي ومحكم.
والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قويّاً راسخاً تتجسّد فيه وحدة القلوب والأرواح والعزائم الحديدية والتصميم القوي، بصورة تعكس أنّهم صفّ متراصّ ليس فيه تصدّع أو تخلخل... يقول علي بن إبراهيم في تفسيره موضّحاً مقصود هذه الآية: "يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول"(9).
وجاء في حديث عن أمير المؤمنين علي (ع) أنّه عندما كان يهيء أصحابه للقتال بصفّين، قال: "إنّ الله تعالى قد أرشدكم إلى هذه المسؤولية حيث قال سبحانه: (إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيان مرصوص) وعلى هذا فاحكموا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدّارع، وأخّروا الحاسر، وعظّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن إلهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنّه أمْوَرُ للأسنّة، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلاّ بأيدي شجعانكم ..."(10).
ملاحظات
1 - ضرورة وحدة الصفوف
إنّ من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر عامل الإنسجام ووحدة
الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الإلتزام به في الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الإقتصادية والسياسية... وإلاّ فسوف لن نحقّق شيئاً.
إنّ التشبيه القرآني للعدو بأنّه سيل عارم ومدمّر لا يسيطر عليه إلاّ من خلال سدّ حديدي محكم، تشبيه في غاية الروعة والجمال، والتعبير بأن يكون المؤمنون كـ (البنيان المرصوص) أروع تعبير جاء في هذا الصدد، وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ أو البناء العظيم، دور معيّن في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تخلخل أو تشقّق أو ثغرات فيه، يصعب عندئذ نفوذ العدوّ منه، وإذا ما حاول ذلك فإنّ الجميع يوجّهون إليه صفعة مدمّرة.
وممّا يؤسف له أنّ أمثال هذه التعاليم الإسلامية قد نسيت اليوم، وإستبدلت حالة الوحدة والتراصّ في مجتمعنا الإسلامي بحالة من التشتّت والتمزّق، وأصبحت صفوفنا شتّى، وكلّ منها ينهش الآخر حتّى أدّى إلى تآكل قوانا وتفرّق جمعنا.
إنّ وحدة الصفّ ليست شعاراً إعلامياً، إنّها تحتاج إلى وحدة العقيدة والتصورات والأهداف... وهذا ما يحتاج بالضرورة إلى خلوص النوايا والإلتزام بالمفاهيم القرآنية العظيمة، وإعتماد التربية الإلهية في السلوك والمنهج العلمي السليم.
وإذا كان الباريء عزّوجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه سبحانه في نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّداً في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار مسلم.
إلهي: تفضّل علينا بمعرفة القرآن العظيم حقّ معرفته، ووفّقنا للإلتزام بتعاليمه السامية.
2 - الأقوال المجرّدة عن العمل
يترجم اللسان في الغالب ما يكنّه القلب وما تضمره الروح، وإذا أصبح اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب وإرادته.
فإنّ ذلك دليل على حالة النفاق، والمنافق تبدو عليه علامات الإعتلال في الفكر والروح.
إنّ من أعظم الإبتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها وعدم الإطمئنان فيما بينها، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الإلتزام والإدّعاءات الفارغة من المحتوى العملي، وأداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون، وبذلك فهم يشكّلون بؤرة عميقة مخيّبة في قبال حالات الإنسجام والوحدة والتماسك أمام المشاكل التي تواجههم، بل يشكّلون عاملا للضعف والتباغض وعدم الإحترام وتضييع الإمكانات وسقوط هيبتهم أمام الأعداء.
عندما أغار جيش الشام على حدود العراق، ووصل خبر ذلك إلى الإمام علي (ع) خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها: "أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء قلتم: حيدي حياد"(11).
والإمام (ع) يتحدّث هنا بألم عن أهل العراق; وهذا ما تعكسه كلماته التي تشير التفاوت بين أقوالهم وأعمالهم.
ونقرأ عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم"(12).
1- مجمع البيان، ج9، ص276.
2- ذهب بعض المفسّرين إلى إحتمالات اُخرى في تفسير هذه الآية من جملتها: أنّهم يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس المشركون من إحياء أصحاب القبور، إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكرناه أعلاه أنسب (وممّا يجدر الإنتباه إليه أنّه طبقاً للتفسير الأوّل فإنّ (من أصحاب القبور) وصف للكفّار وطبقاً للتفسير الأخير فإنّها متعلّقة بـ (يئس).
3- مجمع البيان، ج9، ص278، كما ذكر بقيّة المفسّرين أيضاً أسباب النزول هذه بإختلافات.
4- مجمع البيان، ج9، ص277، نور الثقلين، ج9، ص309.
5- مجمع البيان، ج9، ص277، نور الثقلين، ج9، ص309.
6- تحدّثنا مراراً في هذا التّفسير حول كيفية التسبيح العام لكائنات العالم ومن ضمن ذلك ما ورد في نهاية الآية (44) من سورة الإسراء ونهاية الآية (41) من سورة النور.
7- (لِمَ) في الأصل كانت (لما) (مركبة من لام جارّة، وما إستفهامية) ثمّ سقطت الفها بسبب كثرة الإستعمال.
8- اعتبر بعض المفسّرين (كبر) من أفعال (المدح والذمّ)، (تفسير روح البيان نهاية الآيات مورد البحث)، كما فهم البعض منها معنى التعجّب (تفسير الكشّاف).
9- الميزان، ج19، ص287.
10- نهج البلاغة الرسالة رقم 53 ص444 صبحي الصالح.
11- اُصول الكافي، ج2، باب خلف الوعد.
12- (صفّاً) منصوبة على أنّها حال.