الآيات 7 - 9
﴿عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لاَّ يَنْهَكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُم فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَـتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـرِكُمْ وَظَـهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ(9)﴾
التّفسير:
مودّة الكفّار غير الحربيين:
يستمرّ الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول "الحبّ في الله والبغض في الله" وقطع العلاقة مع المشركين، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغاً عاطفياً بالنسبة للبعض من
المسلمين، فإنّ المؤمنين الصادقين، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه، والله تعالى بشّر هؤلاء ألاّ يحزنوا، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلا، حيث يقول سبحانه: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودّة).
ويتحقّق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ الله على المسلمين بفتح مكّة، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف، مصداقاً لقوله تعالى: (يدخلون في دين الله أفواجاً) وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبّة والصداقة.
بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية إشارة إلى زواج الرّسول الأكرم (ص) من (اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان) التي كانت قد أسلمت وصحبت زوجها "عبيدالله بن جحش"(1) في هجرته للحبشة مع المهاجرين ومات زوجها هناك، فأرسل رسول الله (ص) شخصاً إلى النجاشي وتزوّجها، ولأنّ الزواج بين القبائل العربية كان له تأثير في تضييق دائرة العداء وبناء جسور المودّة بينهم، وهذه المسألة كان لها تأثير إيجابي على أبي سفيان وأهل مكّة.
إلاّ أنّ هذا الإحتمال مستبعد، لأنّ هذه الآيات نزلت عندما كان المسلمون على أبواب فتح مكّة، ولأنّ "حاطب بن أبي بلتعة" كان يروم من إرسال رسالته إلى مشركي مكّة إحاطتهم علماً بعزم الرّسول على فتح مكّة، في الوقت الذي نعلم أنّ "جعفر بن أبي طالب" وأصحابه رجعوا إلى المدينة قبل فتح مكّة (فتح خيبر)(2).
وعلى كلّ حال، إذا تباعد بعض الناس عن خطّ الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس، لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية: (والله قدير والله غفور رحيم).
كلمة (عسى) تستعمل عادةً في الموارد التي يؤمل فيها أن يتحقّق شيء ما، وبما أنّ هذا المعنى يستعمل أحياناً توأماً مع (الجهل) أو (العجز) فإنّ كثيراً من المفسّرين فسّروها بمعنى رجاء الآخرين من الله وليس العكس، إلاّ أنّنا لا نرى تعارضاً في أن يكون لهذا المصطلح المعنى الأصلي، وذلك لأنّ الوصول إلى هدف معيّن لابدّ له في أحيان كثيرة من وجود الشروط المناسبة، وإذا لم تستكمل هذه الشروط فإنّ هذه الكلمة تستعمل في مثل هذه الموارد.
وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودّة مع المشركين، حيث يقول سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فاُولئك هم الظالمون).
وبهذه الصورة يقسّم القرآن الكريم "المشركين" إلى فئتين:
فئة: عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرهاً، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل... وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الإمتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة وصلة الولاء معهم.
والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة، وخصوصاً سادات قريش، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم، وأعانوا آخرون على ذلك.
وفئة اُخرى: مع كفرهم وشركهم - لا يضمرون العداء للمسلمين، ولا يؤذونهم ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم، حتّى أنّ قسماً منهم عقد عهداً معهم بالسلم وترك العداء.
إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحبّ لهم لا مانع منه، وإذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم ...ومصداق هذه الجماعة يتجسّد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهداً مع المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام.
وبناءً على ذلك فلا مجال لقول بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية منسوخة بما ورد في قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(3).
حيث أنّ هذه الآية من سورة التوبة تتحدّث عن المشركين الذين نقضوا العهد ومارسوا أدواراً عدائية ضدّ الإسلام والمسلمين بصورة علنية، ويتبيّن ذلك من خلال الإستدلال بالآيات اللاحقة التي تلي هذه الآية الكريمة(4).
وقد ذكر بعض المفسّرين في حديثه حول هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة أتت بهدايا لإبنتها "أسماء" من مكّة، إلاّ أنّ إبنتها إمتنعت عن قبولها، بل إنّها إمتنعت أيضاً حتّى من السماح لاُمّها من دخول بيتها، فنزلت الآية أعلاه وأمرها رسول الله (ص) أن تلتقي باُمّها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن ضيافتها(5).
وتبيّن لنا هذه الرواية أنّ هذا الحكم لم يكن ليشمل أهل مكّة أجمع، حيث أنّ أقليّة منهم لم تكن تضمر العداء للمسلمين، ولم يكن لهم موقف عدائي إزاء المسلمين، وبشكل عام فإنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلّي وأساسي) لا يختّص بذلك الوقت فقط، بل يمثّل خطّاً عامّاً لطبيعة هذه العلاقة في كلّ الأزمنة سواء اليوم أو غداً، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.
وواجب المسلمين وفق هذه الاُسس أن يقفوا بكلّ صلابة أمام أيّة مجموعة، أو دولة، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعيّن من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً... وقطع كلّ صلّة قائمة على أساس المحبّة والصداقة معهم.
أمّا إذا كان الكفّار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنّهم متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإيّاهم بروابط المودّة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.
وإذا تغيّر موقف جماعة ما، أو دولة ما، وهي من الصنف الأوّل أو حصل عكس ذلك في موقف الصنف الثاني، فبدلّوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة والعداء، فيجب أن يتغيّر معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم الفعلي، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقاً للآيات أعلاه.
1- سفينة البحار، ج2، ص278، مادّة عمل.
2- روح البيان، ج9، ص474.
3- اُصول الكافي، ج2، باب الحبّ في الله حديث (1، 2).
4- اُصول الكافي، ج2، باب الحبّ في الله، حديث (1، 2).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً ويراجع المجلّد الثاني من كتاب اُصول الكافي، باب الحبّ في الله، حيث نقل العلاّمة الكليني في هذا الباب (16) حديثاً حول هذا الموضوع.
5- عبيدالله بن جحش هو أخو عبدالله بن جحش، لم يبق على الإسلام بل إختار المسيحية في الحبشة، ولهذا السبب فإنّ اُمّ حبيبة إنفصلت عنه، أمّا أخوه (عبدالله) فقد بقي مسلماً وكان من مجاهدي أُحد، وإستشهد في تلك الغزوة.