الآيات 1 - 3

﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَـدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)﴾

سبب النّزول:

صرّح أغلب المفسّرين (لكن بإختلاف يسير) بأنّ هذه الآيات - أو الآية الاُولى بصورة أخصّ - نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.

وفي هذا الصدد نذكر ما أورده العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان حول ذلك حيث يقول: "إنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول الله(ص)من مكّة إلى المدينة بعد بدر بسنتين، فقال لها رسول الله (ص): أمسلمة جئت؟ قالت: لا.

قال: أمهاجرة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني.

قال: فأين أنت من شباب مكّة؟ وكانت مغنية نائحة، فقالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر (وهذا يدلّ على عمق النازلة التي نزلت بمشركي قريش في بدر) فحثّ رسول الله (ص) عليها بني عبدالمطلّب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة، وكان رسول الله (ص) يتجهّز لفتح مكّة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وكتب معها كتاباً إلى أهل مكّة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة إنّ رسول الله يريدكم فخذوا حذركم.

فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي (ص) بما فعل، فبعث رسول الله (ص) علياً وعمّاراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرساناً وقال لهم: انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ فانّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها، فخرجوا حتّى أدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فنحوها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهمّوا بالرجوع، فقال علي (ع): والله ما كذّبنا ولا كذّبنا، وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلاّ والله لأضربنّ عنقك.

فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله (ص)، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم، قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: يارسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من

المهاجرين إلاّ وله بمكّة من يمنع عشيرته وكنت عريراً فيهم (أي غريباً) وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ الله ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً.

فصدّقه رسول الله (ص)وعذره، فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني يارسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله (ص) وما يدريك ياعمر لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فغفر لهم فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكّم بين المسلمين من جهة، والمشركين وأعداء الله من جهة اُخرى، والتأكيد على إلغاء وتجنّب أي ولاء مع أعداء الله(1).

التّفسير:

نتيجة الولاء لأعداء الله:

علمنا ممّا تقدّم أنّ سبب نزول الآيات السابقة هو التصرّف المشين الذي صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنّه لم يكن قاصداً التجسّس إلاّ أنّ عمله نوع من إظهار المودّة لأعداء الإسلام، فجاءت الآيات الكريمة تحذّر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرّفات مستقبلا وتنهاهم عنها.

يقول سبحانه في البداية: (ياأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء) مؤكّداً أنّ أعداء الله وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم، ومع هذا التصوّر فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم؟

ويضيف تعالى: (تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا بالله ربّكم)(2).

إنّهم يخالفونكم في العقيدة، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّاً، ويعتبرون إيمانكم بالله - الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم - غاية الجرم وأعظم الذنب، ولهذا السبب قاموا بإخراجكم من دياركم وشتّتوكم من بلادكم ... ومع هذه الأعمال التي مارسوها معكم، هل من المناسب إظهار المودّة لهم، والسعي لإنقاذهم من يد العدالة والجزاء الإلهي على يد المقاتلين المسلمين المقتدرين؟

ثمّ يضيف القرآن الكريم موضّحاً: (إن كنتم خرجتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي)(3) فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ.

فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ الله حقّاً، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلباً لرضاه تعالى، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء الله سبحانه.

ثمّ يضيف عزّوجلّ للمزيد من الإيضاح فيقول: (تسرّون إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) (4).

وبناءً على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم الله في الغيب والشهود؟

وفي نهاية الآية نجد تهديداً شديداً لمن يجانب السبيل الذي أمر به الله سبحانه بقوله: (ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل).

فمن جهة إنحرف عن معرفة الله تعالى بظنّه أنّ الله لا يعلم ولا يرى ما يصنع، وكذلك إنحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء الله، وبالإضافة إلى ذلك فانّه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه للتوضيح والتأكيد الشديد في تجنّب موالاتهم: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء)(5).

أنتم تكنّون لهم الودّ في الوقت الذي يضمرون لكم حقداً وعداوة عميقة ومتأصّلة، وإذا ما ظفروا بكم فإنّهم لن يتوانوا عن القيام بأي عمل ضدّكم، وينتقمون منكم ويؤذونكم بأيديهم وبألسنتهم وبمختلف وسائل المكر والغدر فكيف - إذن - تتألّمون وتحزنون على فقدانهم مصالحهم؟

والأدهى من ذلك هو سعيهم الحثيث في ردّكم عن دينكم وإسلامكم، والعمل على تجريدكم من أعظم مكسب وأكبر مفخرة لكم، وهي حقيقة الإيمان (وودّوا لو تكفرون) وهذه أوجع ضربة وأعظم مأساة وأكبر داهية يريدون إلحاقها بكم.

وفي آخر آية من هذه الآيات يستعرض سبحانه الجواب على "حاطب بن أبي بلتعة" ومن يسايره في منهجه من الأشخاص، حينما قال في جوابه لرسول الله عن السبب الذي حدا به إلى إفشاء أسرار المسلمين لمشركي مكّة، حيث قال بلتعة: أهلي وعيالي في مكّة، وأردت أن أمنع عنهم الأذى وأصونهم بعملي هذا، (واتّخذ عند أهلها يداً) يقول تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم).

وذلك لأنّ الأرحام والأولاد المشركين سوف لن يجلبوا خيراً وعزّة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة.

إذن لماذا تتصرّفون وتعملون مثل هذا العمل الذي يوجب سخط البارىء، وذلك بالتقرّب من أعداء الله وإرضاء المشركين والبعد عن أوليائه تعالى وجلب الضرر على المسلمين؟

ثمّ يضيف تعالى: (يوم القيامة يفصل بينكم)(6).

وهذا تأكيد على أنّ مقام أهل الإيمان هو الجنّة، وأنّ أهل الكفر يساقون إلى جهنّم وبئس المصير، وهو بيان آخر وتوضيح لما تقدّم سابقاً من أنّ عملية الفرز والفصل ستكون فيما بينكم، حيث ستقطع الأواصر بصورة تامّة بين الأرحام بلحاظ طبيعة الإيمان والكفر الذي هم عليه، ولن يغني أحد عن الآخر شيئاً، وهذا المعنى مشابه لما ورد في قوله تعالى: (يوم يفرّ المرء من أخيه واُمّه وأبيه وصاحبته وبنيه)(7)وفي نهاية الآية يحذّر الجميع مرّة اُخرى بقوله تعالى: (والله بما تعملون بصير).

إنّه عالم بنيّاتكم، وعالم بالأعمال التي تصدر منكم، سواء كانت في حالة السرّ أو العلن، وإذا كانت المصلحة الإلهية تقتضي عدم إفشاء أسراركم أحياناً كما في حادثة حاطب بن أبي بلتعة، فلأنّها لحكمة أو مصلحة يراها سبحانه، وليس لأنّه لا يعلم بها أو تخفى عليه خافية.

وفي الحقيقة إنّ علم الله بالغيب والشهود، والسرّ والعلن، وسيلة مؤثّرة وعظيمة في تربية الإنسان حيث يشعر دائماً بأنّه في محضر الباريء عزّوجلّ الرقيب على قوله وعمله، بل حتّى على نيّته، وهنا تصدق مقولة أنّ التقوى وليدة المعرفة التامّة بالله عزّوجلّ.


1- قرأها البعض "ممتحنة" بفتح الحاء وذلك بسبب حالة التمحيص والإمتحان للنسوة المهاجرات، وقرأها آخرون ممتحنة - بكسر الحاء - وذلك لأنّ موضوعات السورة - أجمع - كانت وسيلة للإمتحان والتمحيص.

2- مجمع البيان، ج9، ص267.

3- نور الثقلين، ج5، ص299.

4- مجمع البيان، ج9، ص269، بتلخيص مختصر، كما نقل هذا في سبب النزول: البخاري في صحيحه، ج9، ص185، والفخر الرازي، وورد كذلك في تفسير روح المعاني، وروح البيان، وفي الظلال، والقرطبي، والمراغي، وفي تفاسير اُخرى باختلاف.

5- جملة: (تلقون إليهم بالمودّة) قالوا: إنّها حال من ضمير (لا تتّخذوا) كما قيل: إنّها جملة إستئنافية (الكشّاف، ج4، ص512).

الباء في (المودّة) إمّا زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) أو أنّها سببيّة بحذف المفعول الذي تقديره: (تلقوا إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة التي بينكم وبينهم) الكشّاف أيضاً.

6- يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة الشرطية لها جزاء محذوف يستفاد من الجملة السابقة تقديره: (وإن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي لا تتولّوا أعدائي).

7- الجملة أعلاه جملة إستئنافية.