الآيات 1 - 5
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ مِن دِيَـرِهِمْ لاَِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأتَـهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَـأُوْلِى الاَْبْصَـرِ (2) وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ(3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَـسِقِينَ (5)﴾
سبب النّزول:
ذكر المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي:
كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم: "بنو النضير"، و "بنو قريظة"، و "بنو قينقاع"، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها، وذلك لما قرأوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة، حيث كانوا بإنتظار هذا الظهور العظيم.
وعندما هاجر الرّسول الأكرم (ص) إلى المدينة عقد معهم حلفاً بعدم تعرّض كلّ منهما للآخر، إلاّ أنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهداً في نقض العهد.
ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة اُحد، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.
فقد ذهب "كعب بن الأشرف" زعيم قبيلة "بني النضير" مع أربعين فارساً إلى مكّة، وهنالك عقد مع قريش حلفاً لقتال محمّد (ص)، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصاً، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفراً من اليهود، ودخلا معاً إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة، فعلم النبي (ص) بذلك عن طريق الوحي.
والمؤامرة الاُخرى هي أنّ رسول الله (ص) دخل يوماً مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير، وذلك بحجّة إستقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر، قتلهما (عمرو بن اُميّة) أحد المسلمين، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتّى لا يباغت المسلمون بذلك.
فبينما كان رسول الله (ص) يتحدّث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لإغتيال رسول الله (ص) وتنادى القوم: إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وهاهو قد جلس بالقرب من حائطكم، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه، فقام "عمرو بن جحاش" وأبدى إستعداده لتنفيذ الأمر، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي، إلاّ أنّ رسول الله(ص) علم عن طريق الوحي بذلك، فقفل راجعاً إلى المدينة دون أن يتحدّث بحديث مع أصحابه، إلاّ أنّ الصحابة تصوّروا أنّ الرّسول سيعود مرّة اُخرى، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرّسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضاً.
وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول الله (ص) نقض اليهود للعهد، فأعطى أمراً للإستعداد والتهيّؤ لقتالهم.
وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول الله(ص)بشعر يتضمّن مسّاً بكرامة الرّسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.
وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاُولى أن أمر رسول الله (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود، إذ كانت له به معرفة، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدّمات وقتله.
إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلا في صفوف اليهود، عند ذلك أعطى رسول الله (ص) أمراً للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.
وعندما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القويّة، وأحكموا الأبواب، إلاّ أنّ الرّسول (ص) أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.
لقد أُنجز هذا العمل لأسباب عدّة: منها أنّ حبّ اليهود لأموالهم قد يخرجهم من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم، وبالتالي يكون إشتباك المسلمين معهم مباشرةً، كما يوجد إحتمال آخر، وهو أنّ هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لابدّ من أن تقلع.
وعلى كلّ حال، فقد إرتفع صوت اليهود عندما شعروا بالضيق، وهم محاصرون في حصونهم... فقالوا: يامحمّد، لقد كنت تنهى عن هذا، فما الذي حدا بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟
فنزلت الآية (رقم 5) من الآيات محلّ البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من الله عزّوجلّ.
واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام، ومنعاً لسفك الدماء إقترح رسول الله(ص)عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة، فوافقوا على هذا وحملوا مقداراً من أموالهم تاركين القسم الآخر... واستقرّ قسم منهم في "أذرعات الشام"، وقليل منهم في "خيبر"، وجماعة ثالثة في "الحيرة"، وتركوا بقيّة أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها.
وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (اُحد) بستّة أشهر، إلاّ أنّ آخرين قالوا: إنّها وقعت بعد غزوة بدر بستّة أشهر(1).
التّفسير:
نهاية مؤامرة يهود بني النضير:
بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزّته وحكمته، يقول سبحانه: (سبّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم).
وهذه في الحقيقة مقدّمة لبيان قصّة يهود بني النضير، اُولئك الذين إنحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته، وبالإضافة إلى كونهم مغرورين بإمكاناتهم وقدرتهم وعزّتهم ويتآمرون على الرّسول (ص).
التسبيح العامّ الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء، أعمّ من الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان "القال" ويمكن أن يكون بلسان "حال" هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كلّ ذرّة من ذرّات هذا الوجود، وهو التسليم المطلق لله سبحانه والإعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.
ومن جهة اُخرى فإنّ قسماً من العلماء يعتقدون أنّ كلّ موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطّلع عليه، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها، والعالم بأجمعه منشغل بحمد الله وتسبيحه وإن كنّا غير مطّلعين على ذلك.
الأولياء الذين فتحت لهم عين الغيب يتبادلون أسرار الوجود مع كلّ موجودات العالم، ويسمعون نطق الماء والطين بصورة واضحة، إذ أنّ هذا النطق محسوس من قبل أهل المعرفة.
(وهنالك شرح أكثر حول هذا الموضوع في تفسير الآية 44 من سورة الإسراء).
وبعد بيان المقدّمة أعلاه نستعرض أبعاد قصّة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر).
"حشر" في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك، والمقصود منه هنا إجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود، أو إجتماع اليهود لمحاربة المسلمين، ولأنّ هذا أوّل إجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر، وهذه بحدّ ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.
والعجيب أنّ جمعاً من المفسّرين ذكروا إحتمالات للآية لا تتناسب أبداً مع محتواها، ومن جملتها أنّ المقصود بالحشر الأوّل ما يقع مقابل حشر يوم القيامة،
وهو القيام من القبور إلى الحشر، والأعجب من ذلك أنّ البعض أخذ هذه الآية دليلا على أنّ حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي اُبعد اليهود إليها، وهذه الإحتمالات الضعيفة ربّما كان منشؤها من وجود كلمة "الحشر"، في حين أنّ هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة، بل تطلق على كلّ إجتماع وخروج إلى ميدان ما، قال تعالى: (وحشر لسليمان جنود من الجنّ والإنس والطير)(2).
وكذلك ما ورد في الإجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها موسى(ع) مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه: (وأن يحشر الناس ضحى)(3).
ويضيف الباريء عزّوجلّ: (ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله) لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة، وقدرتهم الماديّة الظاهرية.
إنّ التعبير الذي ورد في الآية يوضّح لنا أنّ يهود بني النضير كانوا يتمتّعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة، بحيث أنّهم لم يصدّقوا أنّهم سيغلبون بهذه السهولة، وذلك ظنّ الآخرين أيضاً.
ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب، هو دليل على قدرته سبحانه، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.
ولذلك يضيف - إستمراراً للبحث الذي ورد في الآية - قوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) نعم، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين، وقد خيّم على قلوبهم، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة، لقد جهّزوا وهيّأوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى، حيث يرسل لهم جيشاً من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حدّ ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين.
صحيح أنّ مقتل زعيمهم "كعب بن الأشرف" - قبل الهجوم على قلاعهم وحصونهم - كان سبباً في إرباكهم وإضطراب صفوفهم، إلاّ أنّ من الطبيعي أنّ مقصود الآية غير ما تصوّره بعض المفسّرين، فإنّ ما حدث كان نوعاً من الإمداد الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرّات عديدة حين جهادهم ضدّ الكفّار والمشركين.
والطريف هنا أنّ المسلمين كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل حتّى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين، ونتيجة لهذا فقد عمّ الخراب التامّ جميع قلاعهم وحصونهم.
وذكرت لهذه الآية تفاسير اُخرى أيضاً منها: أنّ اليهود كانوا يخربونها من الداخل لينهزموا، أمّا المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهّزوا عليهم (إلاّ أنّ هذا الإحتمال مستبعد).
أو يقال إنّ لهذه الآية معنىً كنائي، وذلك كقولنا: إنّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده، يعني أنّه بسبب جهله وتعنّته دمّر حياته.
أو أنّ المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت، هو من أجل إغلاق الأزقّة الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدّم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها.
أو أنّهم هدموا قسماً من البيوت داخل القلعة حتّى إذا ما تحوّلت الحرب إلى داخلها يكون هنالك مكان كاف للمناورة والحرب.
أو أنّ مواد بناء بعض البيوت كان ثميناً فخرّبوها لكي يحملوا ما هو مناسب منها، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع.
وفي نهاية الآية - بعنوان إستنتاج كلّي - يقول تعالى: (فاعتبروا يا اُولي الأبصار).
"اعتبروا" من مادّة (إعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور، أي العبور من شيء إلى شيء آخر، ويقال لدمع العين "عبرة" بسبب عبور قطرات الدموع من العين، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب، حيث أنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر، وإطلاق "تعبير المنام" على تفسير محتواه، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.
وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر.
والتعبير بـ "اُولي الأبصار" إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.
كلمة (بصر) تقال دائماً للعين الباصرة، و "البصيرة" تقال للإدراك والوعي الداخلي(4).
وفي الحقيقة أنّ "اُولي الأبصار" هم أشخاص لهم القابلية على الإستفادة من (العبر)، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للإستفادة من هذه الحادثة والإتّعاظ بها.
وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير، إلاّ أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبداً بـ "القياسات الظنّية" التي يستفيد منها البعض في إستنباط الأحكام الدينيّة.
والعجيب هنا أنّ بعض فقهاء أهل السنّة إستفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا المقصود، بالرغم من أنّ البعض الآخر لم يرتضوا ذلك.
والخلاصة أنّ المقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الإنتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر، وليس العمل على أساس التصوّر والخيال.
وعلى كلّ حال فإنّ مصير طائفة "بني النضير" بتلك القدرة والعظمة والشوكة، وبتلك الصورة من الإستحكامات القويّة، صار موضع (عبرة) حيث أنّهم إستسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قوّاتها بقوّاتهم، وبدون مواجهة مسلّحة، بحيث كانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقيّة أموالهم للمسلمين المحتاجين، وتفرّقوا في بقاع عديدة من العالم، في حين أنّ اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم، ويكونوا في الصفّ الأوّل من أعوانه كما ذكر المؤرّخون ذلك.
وبهذا الصدد نقرأ حديثاً ورد عن الإمام الصادق حيث يقول: "كان أكثر عبادة أبي ذرّ رحمه الله التفكّر والإعتبار"(5).
ومع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيّاً، ولا يعتبرون ولا يتّعظون بوضع الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد، ويقول الإمام علي (ع) "السعيد من وعظ بغيره"(6).
وتضيف الآية اللاحقة (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذّبهم في الدنيا).
وبدون شكّ فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهداً بليغاً في الحصول عليها، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم، وبناءً على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب، فإنّ بإنتظارهم عذاباً آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين... إلاّ أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض والتشرّد في العالم، لأنّ هذا أشدّ ألماً وأسىً على نفوسهم، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين.
وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول الله (ص)، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصّة على المستوى النفسي.
نعم، إنّ الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة، أن تبتلى بمثل هذا المصير البائس.
وكان هذا عذاباً دنيوياً لهم، إلاّ أنّ لهم جولة اُخرى مع عذاب أشدّ وأخزى، ذلك هو عذاب الآخرة، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية (ولهم في الآخرة عذاب النار).
هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وهي درس بليغ لكلّ من أعرض عن الحقّ والعدل وركب هواه، وغرّته الدنيا وأعماه حبّ ذاته.
وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافاً إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذاراً وتنبيهاً لكلّ من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى: (ذلك بأنّهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقّ الله فإنّ الله شديد العقاب)(7).
"شاقّوا" من مادّة (شقاق) وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين، وبما أنّ العدو يكون دائماً في الطرف المقابل، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.
وجاء مضمون هذه الآية بإختلاف جزئي جدّاً في سورة الأنفال الآية 13، وذلك بعد غزوة بدر وإنكسار شوكة المشركين، والتي تبيّن عمومية محتواها من كلّ جهة، في قوله تعالى: (ذلك بأنّهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب).
والشيء الجدير بالملاحظة أنّ بداية الآية الكريمة طرحت مسألة العداء لله ورسوله، إلاّ أنّ الحديث في ذيل الآية إقتصر عن العداء لله سبحانه فقط، وهو إشارة إلى أنّ العداء لرسول الله هو عداء لله أيضاً.
والتعبير بـ (شديد العقاب) لا يتنافى مع كون الله "أرحم الراحمين" لأنّه في موضع العفو والرحمة فالله أرحم الراحمين، وفي موضع العقاب والعذاب فإنّ الله هو أشدّ المعاقبين، كما جاء ذلك في الدعاء: "وأيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة"(8).
وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جواباً على إعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم - كما ورد في شأن النزول - بأمر من رسول الله (ص) لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة... وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم، فقالوا: يامحمّد، ألم تكن الناهي عن مثل هذه الأعمال؟ فنزلت الآية الكريمة مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول الباريء: (وما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اُصولها فبإذن الله(9) وليخري الفاسقين).
"لينة" من مادّة (لون) تقال لنوع جيّد من النخل، وقال آخرون: إنّها من مادّة (لين) بمعنى الليونة التي تطلق على نوع من النخل، والتي لها أغصان ليّنة قريبة من الأرض وثمارها ليّنة ولذيذة.
وتفسّر (ليّنة) أحياناً بألوان وأنواع مختلفة من شجر النخيل، أو النخل الكريم، والتي جميعها ترجع إلى شيء واحد تقريباً.
وعلى كلّ حال فإنّ قسماً من المسلمين أقدموا على قطع بعض نخيل بني النضير، في الوقت الذي خالف البعض الآخر ذلك، وهنا نزلت الآية أعلاه وفصلت نزاعهم في هذا الموضوع(10).
وقال البعض الآخر: إنّ الآية دالّة على عمل شخصين من الصحابة، وقد كان أحدهم يقوم بقطع الجيّد من شجر النخل ليغضب اليهود ويخرجهم من قلاعهم، والآخر يقوم بقطع الرديء من الأشجار كي يبقي ما هو جيّد ومفيد، وحصل خلاف بينهم في ذلك، فنزلت الآية حيث أخبرت أنّ عملهما بإذن الله(11).
ولكن ظاهر الآية يدلّ على أنّ المسلمين قطعوا بعض نخل (اللينة) وهي نوع جيّد من النخل، وتركوا قسماً آخر، ممّا أثار هذا العمل اليهود، فأجابهم القرآن الكريم بأنّ هذا العمل لم يكن عن هوى نفس، بل عن أمر إلهي صدر في هذا المجال، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل كان إستثناء من الأحكام الإسلامية الأوّلية التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع... والعمل أعلاه كان مرتبطاً بمورد معيّن حيث اُريد إخراج العدو من القلعة وجرّه إلى موقع أنسب للقتال وما إلى ذلك - وعادةً توجد إستثناءات جزئيّة في كلّ قانون، كما في جواز أكل لحم الميّت عند الضرورة القصوى والإجبار.
جملة (وليخزي الفاسقين) ترينا على الأقل أنّ أحد أهداف هذا العمل هو خزي ناقضي العهد هؤلاء، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيّتهم.
ملاحظات
1 - الجيوش الإلهيّة اللا مرئية:
في الوقت الذي تعتبر القوى الماديّة أكبر سلاح لتحقيق الإنتصار من وجهة نظر الماديين، فإنّ إعتماد المؤمنين يتمركز حول محورين (القيم المعنوية والإمكانات المادية) والذي قرأنا نموذجاً منه في قصّة إندحار بني النضير كما بيّنت ذلك الآيات السابقة.
ونقرأ في هذه الآية أحد العوامل المؤثّرة في هذا الإنتصار حيث ألقى الله سبحانه الرعب في قلوب اليهود، بحيث أخذوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم، وتخلّوا عن ديارهم وأموالهم مقابل السماح لهم بالخروج من المدينة.
وقد ورد هذا المعنى بصورة متكرّرة في القرآن الكريم، منها ما ورد في قصّة اُخرى حول قسم آخر من اليهود وهم (بنو قريظة).
حيث اشتبكوا إشتباكاً شديداً مع المسلمين بعد غزوة الأحزاب، وفي هذا المعنى يقول سبحانه: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً).
وجاء هذا المعنى في غزوة بدر حيث يقول تعالى: (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).
وبعض هذا الخوف الذي هو عبارة عن جيش إلهي غير مرئي يكاد يكون أمراً طبيعيّاً، ولكن بعضه يمثّل سرّاً من الأسرار غير الواضحة لنا، أمّا الطبيعي منه فانّ المؤمنين يرون أنفسهم منتصرين سواء قتل أو تغلّب على العدوّ.
والشخص الذي يؤمن بهذا الإعتقاد لا يجد الخوف طريقاً إليه، ومثل هذا الإنسان سيكون اُعجوبة في صموده وثباته كما يكون - أيضاً - مصدر خوف وقلق لأعدائه، والذي نلاحظه في عالم اليوم أنّ بلداناً عديدة تملك قدرات هائلة من الإمكانات العسكرية المتطورة والمادية الكبيرة، تخشى من ثلّة من المؤمنين الصادقين الذائدين عن الحقّ، ويحاولون دائماً تحاشي مواجهتهم.
وفي حديث حول هذا المعنى يقول رسول الله (ص): "نصرت بالرعب مسيرة شهر"(12).
يعني أنّ الرعب لم يصب الأعداء في خطّ المواجهة فحسب، بل أصاب من كان من الأعداء على مسافة شهر واحد من جيش الإسلام.
وحول جيوش الإمام المهدي (ع) نقرأ أنّ ثلاثة جيوش تحت أمره وهم: (الملائكة، و المؤمنون، و الرعب)(13).
وفي الحقيقة، إنّ الأعداء يبدلّون كافّة إمكاناتهم لتجنّب الضربة من الخارج، إلاّ أنّهم غفلوا عن أنّ الله سبحانه يهزمهم داخليّاً، حيث أنّ الضربة الداخلية أوجع للنفس، ولا يمكن تداركها بسهولة، حتّى لو وضعت تحت تصرّفهم كلّ الأسلحة والجيوش، فإنّها غير قادرة على أن تحقّق النصر مع فقدان المعنوية العالية والروحية المؤهّلة لخوض القتال، وبالتالي فإنّ الفشل والخسران أمر متوقّع جدّاً لأمثال هؤلاء.
2 - مؤامرات اليهود المعاصرة
إنّ التاريخ الإسلامي إقترن منذ البداية بمؤامرات اليهود، ففي كثير من الحوادث الأليمة والفجائع الدامية ترى أصابعهم مشهودة بشكل مباشر أو غير مباشر.
والعجيب أنّ هؤلاء نزحوا إلى ديار الحجاز طمعاً في أن يكونوا في الصفّ الأوّل من أصحاب النبي الموعود إلاّ أنّهم بعد ظهوره أصبحوا من ألدّ أعدائه.
وعندما نستقرىء حالتهم المعاصرة فإنّنا نلاحظ أيضاً أنّهم متورّطون في أغلب المؤامرات المدبّرة ضدّ الإسلام، ويتجسّد موقفهم هذا في داخل الأحداث تارةً ومن خارجها اُخرى، وفي الحقيقة فإنّ هذا هو موضع تأمّل وإعتبار لمن كان له قلب وبصيرة.
والطريق الوحيد لكسر شوكتهم كما يؤكّده تاريخ صدر الإسلام، هو التعامل الحدّي والجدّي معهم، خصوصاً مع الصهاينة الذين لا يتعاملون بمبادىء العدل والحقّ أبداً، بل منطقهم القوّة، وبغيرها لا يمكن التفاهم معهم، ومع هذا فإنّ خوفهم الحقيقي هو من المؤمنين الصادقين.
وإذا كان المسلمون المعاصرون مسلّحين بالإيمان والإستقامة المبدئية - كأصحاب رسول الله (ص) - فإنّ الرعب سيستحوذ على قلوب اليهود ونفوسهم، وبالإمكان عندئذ إخراجهم من الأرض الإسلامية التي إغتصبوها بهذا الجيش الإلهي.
وهذا درس علّمنا رسول الله (ص) إيّاه قبل أربعة عشر قرناً.
1- المصدر السابق.
2- مجمع البيان، ج9، ص255، 256، ونقل القرطبي هذا الحديث أيضاً في بداية هذه السورة.
3- المصدر السابق.
4- مجمع البيان وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير القرطبي ونور الثقلين (نهاية الآيات مورد البحث) مقتبس بإختصار.
5- النمل، الآية 17.
6- سورة طه، الآية 59.
7- المفردات للراغب.
8- كتاب الخصال مطابق لنقل نور الثقلين، ج5 ص274.
9- نهج البلاغة، خطبة 86.
10- "من" شرطية وجزاؤها محذوف وتقديره: ومن يشاقّ الله يعاقبه فإنّ الله شديد العقاب.
11- دعاء الإفتتاح (من أدعية شهر رمضان المبارك).
12- "ما" في الآية أعلاه شرطية وجزاؤها (فبإذن الله).
13- تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص93، وجاء هذا المعنى في الدرّ المنثور، ج9، ص188.