الآيات 5 - 7

﴿إِنَّ الَّذِين يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَـتِ بَيِّنَـت وَلِلْكَـفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَـهُ اللهُ ونَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(7)﴾

التّفسير:

اُولئك أعداء الله:

إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الإلتزام بالحدود الإلهيّة وعدم تجاوزها، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدّث عن الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك.

يقول سبحانه في البداية: (إنّ الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم).

"يحادون" من مادّة (محادة) بمعنى الحرب المسلّحة والإستفادة من الحديد وتقال أيضاً للحرب غير المسلّحة.

وقال البعض: إنّ (المحادّة) في الأصل بمعنى الممانعة من مادّة (حدّ) والتي تجيء بمعنى المانع بين شيئين، ولذلك يقال للحارس (حداد)، والمعنيان من حيث النتيجة متقاربان بالرغم من أنّهما مأخوذان من أصلين مختلفين.

"كبتوا" من مادّة (كبت) على وزن (ثبت) بمعنى المنع بذلّة، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل(1).

وهذا التعبير شبيه ما ورد في الآية (114) من سورة البقرة التي تتحدّث عن الأشخاص الذين يمنعون الناس من المساجد وعبادة الله سبحانه، ويحاربون مبدأ الحقّ حيث يقول سبحانه: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم).

أو كما ورد في الآية (33) من سورة المائدة في الحديث عن مصير الأشخاص الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض حيث يقول: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم).

ثمّ يضيف الباري سبحانه: (وقد أنزلنا آيات بيّنات).

وبناءً على هذا فقد تمّت الحجّة بشكل كامل، ولم يبق عذر، وحجّة للمخالفة، ومع ذلك فإن خالفوا، فلابدّ من أن يجازوا، ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في القيامة: (وللكافرين عذاب مهين).

وبهذه الصورة فقد اُشير إلى عذابهم الدنيوي في الجملة السابقة، وفي هذه الجملة إلى العذاب الاُخروي، والشاهد على هذا المعنى في الآية الكريمة التالية: (كما كبت الذين من قبلهم) كما أنّ الآية اللاحقة تؤكّد هذا المعنى أيضاً.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرّسول (ص) والقرآن الكريم قد تحقّق، حيث واجهوا الذلّة والإنكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك، وأخيراً في فتح مكّة حيث كسرت شوكتهم وأُحبط كيدهم بإنتصار الإسلام في كلّ مكان.

والآية اللاحقة تتحدّث عن إستعراض زمان وقوع العذاب الاُخروي عليهم حيث يقول عزّوجلّ: (يوم يبعثهم الله جميعاً فينبّئهم بما عملوا)(2) نعم (أحصاه الله ونسوه).

ولذا فعندما تقدّم لهم صحيفة أعمالهم يصرخون: (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها)(3).

وهذا بحدّ ذاته عذاب مؤلم، لأنّ الله تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول الباريء سبحانه: (والله على كلّ شيء شهيد).

وهذه في الحقيقة بمثابة الدليل على ما ورد في الجملة السابقة، فانّ حضور الله سبحانه في كلّ مكان وفي كلّ زمان وفي الداخل والخارج، يوجب ألاّ يحصي أعمالنا - فقط - بل نيّاتنا وعقائدنا، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو "يوم البروز" يعرف كلّ شيء.

ولكي يعلم الإنسان السبب في صعوبة الجزاء الإلهي.

ولتأكيد حضور الله سبحانه في كلّ مكان وعلمه بكلّ شيء ينتقل الحديث إلى مسألة "النجوى" حيث يقول سبحانه: (ألم تر أنّ الله يعلم ما في السماوات).

بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول (ص) إلاّ أنّ المقصود هو عموم الناس(4)، ومقدّمة لبيان مسألة النجوى.

ثمّ يضيف تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم، ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينّبئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شيء عليم)(5).

نلاحظ هنا عدّة نقاط تستحقّ الإنتباه:

1 - "النجوى" و "النجاة" في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي إنفصل عن أطرافه وجوانبه بسبب إرتفاعه، ولأنّ الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل في مكان بعيد عن الآخرين، أو بلحاظ أنّ المتحدّث بالنجوى يريد أن ينجي أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين.

2 - يرى البعض أنّ "النجوى" يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر، وإذا كانت بين شخصين فيقال لها (سرار) على وزن (سِتار) إلاّ أنّ هذا خلاف ظاهر الآية، لأنّ الجملة: (ولا أدنى من ذلك) تشير إلى أقلّ من ثلاثة أشخاص - أي شخصين - ومن الطبيعي أنّه إذا تناجى شخصان فلابدّ من أن يكون شخص ثالث قريب منهما، وإلاّ فلا ضرورة للنجوى.

إلاّ أنّ ذلك لا يرتبط بما ذكرنا.

3 - والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ الآية أعلاه تحدّثت في البداية عن نجوى ثلاثة، ومن ثمّ عن نجوى خمسة، ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص والتي هي بين المرتبتين (ثلاثة وخمسة)، وبالرغم من أنّ كلّ ذلك جاء من باب

المثال، إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكروا له وجوهاً مختلفة، وأنسبها أنّ المقصود بذلك رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار، لأنّه إذا قال تعالى (كلّ ثلاثة أشخاص يتناجون فإنّ الله رابعهم، وكلّ أربعة أشخاص يتناجون فإنّ الله خامسهم) فإنّ العدد (أربعة) يتكرّر هنا، وهذا بعيد عن البلاغة.

وقال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور.

4 - المقصود من أنّ "الله" رابعهم أو سادسهم هو أنّ الله عزّوجلّ موجود حاضر وناظر في كلّ مكان وعالم بكلّ شيء، وإلاّ فإنّ ذاته المقدّسة لا مكان لها، ولا يوصف بالعدد أبداً، ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة، بل بمعنى أنّه لا شبيه له، ولا نظير ولا مثيل.

5 - وجدير بالذكر أنّ الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى، حيث تؤكّد الآية أنّ الله مع الإنسان في كلّ مكان، وسوف يُطلع الإنسان على أعماله يوم القيامة... وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكلّ شيء.

6 - نقل بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية، ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص، هم (ربيعة وحبيب وصفوان) كانوا يتحدّثون مع بعضهم، وقال أحدهم للآخر: هل يعلم الله ما نقول؟ قال الثاني: قسم يعلمه وقسم لا يعلمه.

وقال الثالث: إذا كان يعلم قسماً منه فإنّه يعلم جميعه، فنزلت الآية وأعلنت أنّ الله تعالى حاضر في كلّ نجوى وفي كلّ مكان في الأرض وفي السماء، كي يتّضح خطأ الغافلين عمي القلوب(6).

بحث

حضور الله سبحانه في كلّ نجوى:

تقدّم آنفاً أنّ الله تعالى ليس جسماً وليست له عوارض جسمانية، ومن هنا فلا يمكن أن نتصوّر له زماناً أو مكاناً، ولكن توهّم أن يوجد مكان لا يكون لله عزّوجلّ فيه حاضراً وناظراً يستلزم القول بتحديده سبحانه.

وبتعبير آخر فإنّ لله سبحانه إحاطة علمية بكلّ شيء في الوقت الذي لا يكون له مكان، مضافاً إلى أنّ ملائكته حاضرون في كلّ مكان، ويسمعون كلّ الأقوال والأعمال ويسجّلونها.

لذا نقرأ في حديث لأمير المؤمنين (ع) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "إنّما أراد بذلك إستيلاء أُمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه، وإن فعلهم فعله"(7).

وطبيعي أنّ هذا هو بعد من أبعاد الموضوع، وأمّا البعد الآخر فيطرح فيه حضور ذات الله عزّوجلّ، كما نقرأ في حديث آخر هو أنّ أحد كبار علماء النصارى سأل عن أمير المؤمنين (ع): أين الله؟ قال (ع): هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت، ومحيط بنا ومعنا، وهو قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم)(8).

وفي الحديث المعروف (الإهليلجة) نقرأ عن الإمام الصادق (ع): إنّ الله تعالى سمّي "السميع" بسبب أنّه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلاّ هو رابعهم... ثمّ أضاف: يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء، لا يخفى عليه خافية، ولا شيء ممّا تدركه الأسماع والأبصار، وما لا تدركه الأسماع والأبصار، ما جلّ من ذلك وما دقّ وما صغر وما كبر(9).


1- وسائل الشيعة، ج15، ص555، حديث4.

2- كنز العرفان، ج2، ص292.

3- وسائل الشيعة، ج15، ص526، الأحاديث (1، 2، 3، 4، 5، 6).

4- فسّر بعض المفسّرين (كبتوا) بمعنى اللعنة، ولأنّ اللعنة من قبل الله تعالى القادر على كلّ شيء دليل على تحقيقها، فالنتيجة هي الذلّة والهوان لهذه المجموعة في الدنيا، إلاّ أنّ ظاهر تعبير الآية أنّها جملة خبريّة وليست إنشائية.

5- يوم ظرف ومتعلّق بالكافرين أو بالمهيمن، والإحتمال الأوّل أنسب، وإختاره كثير من المفسّرين. وإحتمال البعض انّ المتعلّق مقدّر بمعنى (اذكر) مستبعد.

6- الكهف، الآية 49.

7- "ألم تر": من مادّة (رؤية) في الأصل بمعنى المشاهدة الحسيّة، إلاّ أنّها في كثير من الموارد جاءت بمعنى الشهود القلبي والعلم والمعرفة.

8- "نجوى" بالرغم من أنّها مصدر إلاّ أنّها جاءت هنا اسم فاعل، أي من قبيل (زيد عادل).

9- تفسير الفخر الرازي، ج29، ص265.