الآيتان 28 - 29

﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَب أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مِّن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾

سبب النّزول:

نقل كثير من المفسّرين أنّ للآيات أعلاه سبباً للنزول خلاصته ما يلي:

بعث رسول الله (ص) جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه ودعاه فاستجاب له، وآمن به، فلمّا كان عند إنصرافه، قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به، فقدموا مع جعفر، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا وقالوا: يانبي الله إنّ لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا إنصرفنا، فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله تعالى فيهم: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون) إلى قوله تعالى: (...وممّا رزقناهم ينفقون)(1)فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين.

فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن يؤمن به قوله: (اُولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا) فخروا على المسلمين فقالوا: يامعشر المسلمين: أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجر كاُجوركم فما فضلكم علينا، فنزلت: (ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله) الآية، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة(2).

التّفسير:

الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية:

بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين، فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة; يقول سبحانه: (ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله).

وللمفسّرين رأيان حول طبيعة المخاطب في هذه الآية:

الأوّل: إنّ المخاطب هم المؤمنون، حيث يبيّن لهم سبحانه أنّ الإيمان الظاهري غير كاف للفرد، ولابدّ أن يكون الإيمان عميقاً توأماً مع التقوى والعمل، كي ينالوا الأجر العظيم والذي ستتعرّض له الآية الكريمة.

الثاني: إنّ المخاطب هنا هم مؤمنو أهل الكتاب، ويعني: يامن آمنتم بالأنبياء والكتب السابقة آمنوا برسول الإسلام، ولتكن تقوى الله نصب أعينكم كي يشملكم سبحانه بأنواع أجره وجزائه.

والذي يؤيّد الرأي الثاني هو ذكر (الأجر المضاعف) والذي ورد في نهاية الآية والمقصود به جزاء الإيمان بالأنبياء السابقين، وجزاء الإيمان برسول الإسلام.

إلاّ أنّ هذا التّفسير إضافة إلى أنّه لا يتناسب مع الآية اللاحقة - كما سنوضّح - فإنّه كذلك لا ينسجم مع سبب نزول الآية وطبيعة الإطلاق الذي ورد فيها بقوله: (ياأيّها الذين آمنوا).

وبناءً على هذا فلابدّ من تبنّي الرأي القائل بأنّ المقصود بالمخاطب هم جميع المؤمنين الذين قبلوا - بالظاهر - دعوة الرّسول (ص) ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضيء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.

وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى حيث يقول تعالى: (يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم).

"كفل" على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته، ويقال للضامن "كفيل" أيضاً بهذا اللحاظ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه(3).

والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى: (ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).

واحتمل أيضاً أنّ هذين النصيبين يمكن أن يكون أحدهما الإيمان برسول الإسلام (ص) والآخر الإيمان بالأنبياء السابقين، لأنّ كلّ مسلم ملزم بموجب إعتقاده أن يؤمن بكلّ الأنبياء السابقين والكتب السماوية ويحترمها.

وذكر البعض أنّ المقصود هو الأجر المستمر والمتعاقب والمضاعف.

إلاّ أنّ الجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.

وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: (ويجعل لكم نوراً تمشون به) قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بذلك هو نور الإيمان الذي يسبق المؤمنين في سيرهم يوم القيامة، ويبدّد ظلمات الحشر، حيث يتقدّمون إلى الجنّة والسعادة الأبديّة.

كما جاء في الآية الكريمة: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)(4).

في الوقت الذي إعتبرها البعض الآخر إشارة إلى نور القرآن الذي يشعّ على المؤمنين في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(5).

إلاّ أنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب، وبتعبير آخر فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب المؤمنين، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرّم غير المؤمنين منها.

جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المقصود بالنور في الآية أعلاه هو: "إمام تأتمون به"، وهو في الحقيقة بيان واحد من المصاديق الواضحة(6).

وأخيراً فإنّ ثالث جزاء للمؤمنين المتّقين هو (غفران الذنوب) لأنّ بدونه لا يكون للإنسان هناء بأي نعمة من الله عليه، حيث يجب أن يكون في البداية في مأمن من العذاب الإلهي ثمّ ينتقل إلى المسير في طريق النور والتقوى لينال الرحمة الإلهية المضاعفة.

وفي الآية اللاحقة - والتي هي آخر آيات هذه السورة - بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: (لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شيء من فضل الله، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(7).

إنّه جواب لهؤلاء الكتابيّين الذين زعم قسم منهم: أنّ لهم أجراً واحداً كبقيّة المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرّسول (ص) وأمّا الذين آمنوا بالرّسول (ص)منهم فلهم أجران: أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمّد (ص)، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.

فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول الله بالإضافة إلى إيمانهم بكلّ الأنبياء السابقين، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في إختيارهم حتّى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.

وهذه الآية تتضمّن كذلك جواباً لما ورد من ادّعاءات واهية من بعض اليهود والنصارى الذين اعتبروا الجنّة والرحمة الإلهية منحصرة بهم، ظانّين أنّ غيرهم محروم منها، حيث يقول سبحانه: (وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)(8).

بحث

التقوى والوعي:

لقد بيّن القرآن الكريم آثاراً كثيرة للتقوى، ومن جملتها إزالة الحجب عن فكر الإنسان وقلبه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى إرتباط "الإيمان والتقوى" مع "البصيرة" منها قوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)(9).

ومنها قوله تعالى: (واتّقوا الله ويعلّمكم الله)(10).

وجاء هذا المعنى صراحةً في الآيات مورد البحث حيث قال تعالى: (إن تؤمنوا وتتقوا سيجعل الله لكم نوراً) على ضوئه تستطيعون السير.

والعلاقة بين هاتين الآيتين - بالإضافة إلى الجوانب المعنوية التي بقيت مجهولة لنا - قابلة للإدراك العقلي أيضاً، لأنّ أكبر حاجز عن المعرفة وأهمّ مانع لها هو الحجاب الذي يغطّي قلب الإنسان، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة، والآمال البعيدة، والوقوع في أسر المادّة ومغريات الدنيا، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية، وبالتالي فإنّ الحكم على الأشياء يكون بعيداً في منطق العقل والصواب.

إلاّ أنّ إستقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدّد هذه الحجب ويزيل عتمتها وظلامها عن صفحة القلب، ويجعل الروح الإنسانية تفيض بشمس الحقيقة وتتعرّف على الحقائق بصورتها الناصعة وتشعر باللذّة والنشوة من هذا الإدراك الصحيح والعميق للأشياء، وتتفتّح أمامه السبل السليمة للأهداف المقدّسة التي يسعى نحوها ويتقدّم باتّجاهها.

نعم إنّ التقوى هي التي تعطي للإنسان الوعي والوضوح، كما أنّ الوعي يعطي للإنسان التقوى، أي أنّ لكلّ من التقوى والوعي تأثير متبادل بعضهما على البعض الآخر.

ونقرأ هنا في حديث معروف يقول: "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات".

ولإدراك هذا الحديث نصغي لما قاله الإمام علي (ع): "لا دين مع هوى، لا عقل مع هوى، من اتّبع هواه أعماه وأصمّه، وأذلّه وأضلّه"(11).

ربّاه، احفظنا من هوى النفس وتفضّل علينا بالتقوى والبصيرة.

إلهنا، كلّ الفضل والرحمة بيدك، فلا تحرمنا من فضلك العظيم.

ربّنا، وفّقنا لإقامة الحقّ والعدل والقسط وحراسة حدود الكتاب والميزان والوقوف بوجه الظالمين.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الحديد


1- تاريخ ويل دورانت، ج13، ص443.

2- الكهف، الآية 103 - 104.

3- كنز العمّال، ج2، والحديث4496.

4- القصص، الآية 52 - 54.

5- مجمع البيان، ج9، ص244، ونقل نفس المعنى في تفسير أبو الفتوح الرازي وروح المعاني مع بعض الإختلاف في نهاية الآيات مورد البحث.

6- يعتقد البعض أنّ هذا المصطلح مأخوذ من (كفل) على وزن "عسل" والمقصود به هو ما يضعونه على كفل - القسم الأخير من الظهر - الحيوانات كي لا يسقط الراكب، ولذلك فإنّه يقال لكلّ شيء يسبّب الحفظ (كفل)، ومن هنا أطلق على الضامن اسم "الكفيل" بسبب هذا المعنى. (أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث).

ويستفاد من الراغب أنّ لهذا المصطلح معنيين: الأوّل هو المعنى أعلاه، والمعنى الثاني يطلق على الشيء الرديء الذي لا قيمة له، والتشبيه بكفل الحيوانات يكون بلحاظ أنّ كلّ شخص يركب على كفلها فاحتمال سقوطه وارد (يرجى ملاحظة ذلك).

7- الحديد، الآية 12.

8- المائدة، الآية 15.

9- نقلت هذه الروايات في تفسير نور الثقلين، ج5، ص252، 253.

10- في (لا) في (لئلاّ) يعلم أهل الكتاب زائدة أو أصلية، يوجد نقاش بين المفسّرين حول هذه المسألة، حيث اعتبر الكثيرون أنّ (لا) زائدة وتفيد التأكيد (كما ذكرنا أعلاه) وبناءً على أنّ (لا) أصلية، فقد وردت معاني مختلفة للآية من جملتها أنّ المقصود سيكون كالتالي وهو: أن يعلم أهل الكتاب بأنّه إذا قبلوا الإيمان والإسلام فإنّهم يستطيعون أن يهيّؤوا الفضل الإلهي لهم. وبتعبير آخر فإنّ نفي النفي هنا بمعنى (الإثبات) أو يكون المقصود كالتالي: نحن الذين أعطينا كلّ هذه الهبات للمسلمين حتّى لا يتصوّروا أهل الكتاب أن لا نصيب للمسلمين في الفضل الإلهي.

إلاّ أنّه بملاحظة نهاية الآية التي تقول: (وإنّ الفضل بيد الله) وكذلك بملاحظة سبب نزولها الذي مرّ بنا سابقاً فإنّ كون (لا) زائدة هو الأنسب ظاهراً، بل وحسب إعتقاد البعض أنّه في الكثير من الموارد التي تشتمل الجملة على نفي، فإنّ: (لا) تكون زائدة كما في قوله تعالى: (ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك) الأعراف / 12. وفي قوله تعالى أيضاً: (وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون) الأنعام، الآية 109 (يرجى ملاحظة ذلك).

11- البقرة، الآية 111.