الآيات 16 - 18
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْىِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاَْيَـتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)﴾
سبب النزول:
وردت لنزول الآية الاُولى أعلاه عدّة أسباب: منها أنّ الآية المذكورة نزلت - بعد سنة من هجرة الرّسول (ص) - تتحدّث عن المنافقين، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي: حدّثنا عمّا في التوراة، فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص كما في قوله تعالى: (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ...)(1) وعاودوا بعدها سؤال سلمان فجاءهم هذا التوبيخ والعتاب.
وقيل كان الصحابة بمكّة مجدبين، فلمّا هاجروا أصابوا الخير والنعمة، فتغيّروا عمّا كانوا عليه، فقست قلوبهم فعوتبوا من ذلك(2).
كما نلاحظ أسباب نزول اُخرى للآية، وبما أنّها تتحدّث عن نزول هذه الآية في مكّة، لذا فإنّها غير قابلة للإعتماد، لأنّ المشهور أنّ جميع هذه السورة قد نزلت في المدينة.
التّفسير:
إلى متى هذه الغفلة؟
بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة، جاءت الآية الاُولى مورد البحث بشكل إستخلاص نتيجة كليّة من ذلك، فتقول: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحقّ، ولا يكونوا كالذين اُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)(3).
"تخشع" من مادّة "خشوع" بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة - عادةً - مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.
ومن الواضح أنّ ذكر الله عزّوجلّ إذا دخل أعماق روح الإنسان، وسماع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سبباً للخشوع، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدّة قسماً من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الاُمور.
لأنّه قد إبتلى كثير من الاُمم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل.
وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.
ولهذا هل نقتنع بادّعاء الإيمان، والعيش في رفاه والإنشغال بالأكل والشرب ونمرّ أمام هذه المسائل المهمّة ببساطة؟ وهل أنّ أعمالنا ومسؤولياتنا تتناسب مع الإيمان الذي ندّعيه؟
هذه التساؤلات لابدّ من الإجابة عنها مع أنفسنا بهدوء وموضوعية.
جملة: (طال عليهم الأمد) قد تكون إشارة إلى الفاصلة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم، ويحتمل أن يكون المقصود بها طول العمر، أو طول الأمانيّ، أو عدم نزول العذاب الإلهي منذ مدّة طويلة، أو كلّ ذلك، لأنّ كلّ واحدة من هذه الأسباب يمكن أن تكون عاملا للغفلة والقساوة، وهي بدورها تسبّب الذنب والإثم.
جاء في حديث للإمام علي (ع): "لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم"(4).
ونقرأ في حديث آخر عن لسان عيسى المسيح (ع): "لا تكثروا بالكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد، والناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية"(5).
ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلاّ بالذكر الإلهي، الحياة الروحية التي لن تكون إلاّ بظلّ الخشوع والخضوع وخاصّة في أجواء القرآن الكريم ...لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر الله سبحانه...حيث يضيف سبحانه في الآية اللاحقة: (اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلّكم تعقلون).
هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر الله وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنبي محمّد (ص) وكلاهما جديران بالتدبّر والتعقّل، لذا اُشير في الروايات السابقة إلى كليهما.
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (ع) في تفسيره لهذه الآية أنّه قال: "العدل بعد الجور"(6).
كما نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (ع) في تفسيره للآية: (اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها) قال: "يحيي الله تعالى الأرض بالقائم بعد موتها، يعني بموتها كفر أهلها، والكافر ميّت"(7).
ومن الواضح أنّ هذه التفاسير في الحقيقة هي بيان لمصاديقها البارزة، ولا تحدّ من مفهوم الآية أبداً.
وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (ع): "فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر"(8).
ويرجع مرّة اُخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع، حيث يتكرّر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة، حيث يقول تعالى: (إنّ المصدّقين والمصدّقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم)(9).
أمّا لماذا طرحت مسألة الإنفاق بعنوان القرض الحسن لله سبحانه؟ ولماذا كان الجزاء المضاعف الأجر الكريم؟
يمكن معرفة الإجابة على هذه التساؤلات في البحث الذي بيّناه في نهاية الآية (11) من نفس هذه السورة.
احتمل البعض أنّ المقصود من القرض الحسن لله في هذه الآيات والآيات المشابهة(10) بمعنى الإقراض للعباد، لأنّ الله تعالى ليس بحاجة للقرض، بل إنّ العباد المؤمنين هم الذين بحاجة إلى القرض، ولكن بملاحظة سياق الآيات يفهم أنّ المقصود من "القرض الحسن" في كلّ هذه الآيات هو الإنفاق في سبيل الله، بالرغم من أنّ القرض لعباد الله هو من أفضل الأعمال أيضاً.
ويرى "الفاضل المقداد" أيضاً في كنز العرفان في تفسير القرض الحسن بأنّه كلّ الأعمال الصالحة(11).
موعظة وتوبة:
إنّ آية: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله...) من الآيات المثيرة في القرآن الكريم، حيث تليّن القلب، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة وتعلن منبّهة: ألم يأن للقلوب المؤمنة أن تخشع مقابل ذكر الله وما نزّل من الحقّ! وتحذّر من الوقوع في شراك الغفلة كما كان بالنسبة لمن سبق حيث آمنوا وتقبّلوا آيات الكتاب الإلهي، ولكن بمرور الزمن قست قلوبهم.
لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفراداً مذنبين جدّاً قد هداهم الله إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد منها، حتّى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد، ومن جملتهم العابد المعروف "فضيل بن عيّاض" الزاهد.
حيث يحكى عنه أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين "أبيورد" و "سرخس"، وعشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) قال: (بلى والله قد آن) فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتّى نصبح، فإنّ فضيلا قد قطع الطريق علينا.
فتاب الفضيل وأمّنهم، وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات(12).
ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد رجال البصرة المعروفين قال: بينما كنت أسير في طريق فسمعت فجأة صيحة، فذهبت متتبعاً آثارها، فشاهدت رجلا مغمى عليه على الأرض، قلت: ما هذا! قالوا: رجل واعي القلب سمع آية من القرآن وإندهش، قلت: أي آية؟ قالوا: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ...) وفجأة أفاق الرجل عند سماع صوتنا وبدأ بقراءة هذا الشعر المؤثّر:
أما آن للهجران أن ينصرما وللغصن غصن البان أن يتبسّما
وللعاشق الصبّ الذي ذاب وإنحنى ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتاباً حكى نقش الوشي المنمنما
قال ذلك ثمّ سقط على الأرض.
مدهوشاً مرّة اُخرى، فحرّكناه وإذا به قد سلّم روحه إلى بارئه وربّه(13).
1- إبراهيم، الآية 21.
2- المؤمن، الآية 49.
3- المؤمنون، الآية 107.
4- الزمر، الآية 23.
5- مجمع البيان، ج3، ص237 كما جاء في تفسير الدرّ المنثور أيضاً أسباب نزول كثيرة للآية من جملتها سبب النزول الثاني (الدرّ المنثور، ج6 ص175) وأتى البيضاوي أيضاً في تفسير (أنوار التنزيل) بنفس سبب النزول المذكور.
6- (يأن) من مادّة (أنّى) من مادّة (إنا) على وزن (ندا) ومن مادّة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الإقتراب وحضور وقت الشيء.
7- بحار الأنوار، ج78، ص83، الحديث 85.
8- مجمع البيان، ج9، ص238.
9- روضة الكافي مطابق لنقل الثقلين، ج5، ص243.
10- كمال الدين مطابق لنقل نور الثقلين، ج5، ص242.
11- بحار الأنوار، ج78، ص308.
12- المصدّقين و المصدّقات بمعنى "المتصدقين والمتصدقات"، وعطف (أقرضوا الله) الذي هو "جملة فعلية" على "الجملة الإسمية" السابقة، لأنّ معنى هذه الجملة هو "الذين أقرضوا الله".
13- تراجع الآية (245 من سورة البقرة) (الحديد الآية11) و (التغابن آية17) و (المزمل آية20).