الآيات 12 - 15
﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـنِهِم بُشْرَيـكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالْمُنَـفِقَـتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْـتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَـكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الاَْمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَيـكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)﴾
التّفسير:
انظرونا نقتبس من نوركم:
لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم، وإستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدّث عن هذا الأجر، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر، يقول سبحانه: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم).
وبالرغم من أنّ المخاطب هنا هو الرّسول الكريم (ص) إلاّ أنّ من الواضح أنّ الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضاً، ولكن بما أنّ تشخيص المؤمنين من الاُمور اللازمة للرسول (ص) ليتفقدهم فكانت هذه العلامة: (نورهم الذي يسعى بين أيديهم...) دالّة عليهم، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.
وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا إحتمالات متعدّدة لهذا "النور إلاّ أنّ المقصود منه - في الواقع - تجسيم نور الإيمان، لأنّه سبحانه عبّر بـ (نورهم) ولا عجب، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية.
كما نقرأ في الآية الكريمة: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم)(1).
وجاء في الآيات القرآنية الاُخرى أنّ الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام إلى النور: (يخرجهم من الظلمات إلى النور).
التعبير بـ "يسعى" من مادّة (سعى) - بمعنى الحركة السريعة - دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.
والجدير بالملاحظة هنا أنّ الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرّك أمامهم، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى قسمين مختلفين من المؤمنين:
قسم المقرّبين وأصحاب الوجوه النورانية، وهؤلاء نورهم يتحرّك أمامهم.
والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم، وذلك كناية عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.
كما يوجد إحتمال آخر أيضاً وهو أنّ النورين إشارة إلى مجموعة واحدة، وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة ويضيء جميع أطرافهم.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا النور هو دليلهم إلى الجنّة، وعلى ضوئه يسيرون بسرعة إليها.
ومن جهة ثالثة بما أنّ مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا شكّ أنّه يختلف بإختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر، فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإنّ نورهم يضيء مسافة أطول، والذين لهم مرتبة أقل يتمتّعون بنور يناسب مرتبتهم، حتّى أنّ نور بعضهم لا يضيء موضع أقدامهم، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث: "يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم"(2).
وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين: (بشراكم اليوم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم).
أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور، لكنّهم يواجهون بالردّ والنفي.
كما في قوله تعالى: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم)(3).
"إقتباس" في الأصل من مادّة (قبس) بمعنى أخذ شعلة من النار، ثمّ استعملت على أخذ نماذج اُخرى أيضاً.
المقصود من جملة (انظرونا) هو أن انظروا لنا كي نستفيد من نور وجوهكم لنجد طريقنا، أو انظروا لنا نظر لطف ومحبّة واعطونا سهماً من نوركم، كما يحتمل أنّ المقصود هو أنّ (انظرونا) مشتقة من (الإنتظار) بمعنى أعطونا مهلة قليلة حتّى نصل إليكم وفي ظلّ نوركم نجد الطريق.
وعلى كلّ حال يأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً).
كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة، إلاّ أنّ الوقت انتهى، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.
(فضرب بينهم بسور له باب) وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد، حيث إنّ كلا من طرفيه مختلف عن الآخر تماماً، حيث: (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب).
"السور" في اللغة هو الحائط الذي يحيط بالمدن - كما كان في السابق - للمحافظة عليها، وفيه نقاط مراقبة عديدة يستقرّ بها الحرّاس للمحافظة ورصد الأعداء تسمّى بالبرج والأبراج.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا حيث يقول تعالى: (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) حيث أنّ المؤمنين كسكّان المدينة داخل البستان، والمنافقين كالغرباء القسم الصحراوي، فهم في جوّين مختلفين وعالمين متفاوتين، ويحكي ذلك عن كون هؤلاء كانوا في مجتمع واحد جنباً إلى جنب ولكن يفصل بينهم حاجز عظيم من الإعتقادات والأعمال المختلفة، ففي يوم القيامة يتجسّد نفس المعنى أيضاً.
ولماذا هذا "الباب"، ولأي الأهداف؟
للجواب على هذا التساؤل نقول: من الممكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنّة ويتحسّرون عليها، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.
غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه: أنّ المنافقين (ينادونهم ألم نكن معكم) لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟
(قالوا: بلى) كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق، في السفر والحضر، وكنّا أحياناً جيراناً أو في بيت واحد...نعم كنّا معاً، إلاّ أنّ إختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الاُصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنّا.
ثمّ يضيفون: لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:
1 - (ولكنّكم فتنتم أنفسكم) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.
2 - (وتربّصتم) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كلّ عمل إيجابي وكلّ حركة صحيحة، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.
3 - (وارتبتم) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ...
4 - وخدعتكم الآمال (وغرّتكم الأماني حتّى جاء أمر الله).
نعم هذه الأماني لم تعطكم مجالا - حتّى لحظة واحدة - للتفكّر الصحيح، لقد كنتم مغمورين في تصوّراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم أُمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.
5 - (وغرّكم بالله الغرور) إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد الله عزّوجلّ، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واُخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع.
وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.
هذه العوامل الخمسة هي التي فصلت خطّكم عنّا بصورة كليّة وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنّا.
"فتنتم" من مادّة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة كـ (الإمتحان والإنخداع، والبلاء والعذاب، والضلالة والإنحراف، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.
"تربّصتم" من مادّة (تربّص) في الأصل بمعنى الإنتظار، سواء كان إنتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة، والمناسب الأكثر هنا هو إنتظار موت الرّسول (ص) وإنتكاسة الإسلام، أو أنّ الإنتظار بمعنى التعلّل في التوبة من الذنوب وإنجاز كلّ عمل من أعمال الخير.
"وارتبتم" من مادّة (ريب) تطلق على كلّ شكّ وترديد وما سيتوقّع فيما بعد، والمعنى الأنسب هنا هو الشكّ بالقيامة أو حقّانية القرآن الكريم.
وبالرغم من أنّ مفهوم الكلمات المستعملة في الآية واسع، إلاّ أنّ من الممكن أن تكون لبيان المسائل المذكورة بالترتيب، من مسألة "الشرك" وإنتظار "نهاية عمر الإسلام والرّسول" ومن ثمّ "الشكّ في المعاد" الذي يؤدّي إلى "التلوّث العملي" عن طريق "الإنخداع بالأماني" والشيطان، وبناءً على هذا فالجمل الثلاث الاُولى من الآية ناظرة إلى الاُصول الثلاثة للدين، والجملتان الاُخريتان بعدهما ناظرتان إلى فروع الدين.
وأخيراً فإنّ المؤمنين - بلحاظ ما تقدّم - يخاطبون المنافقين بقولهم: (فاليوم لا تؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفّار أيضاً، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.
ثمّ يضيف سبحانه: (مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير) (4).
الإنسان - عادةً - لكي ينجو من العقوبة المتوقّعة في الدنيا، يتوسّل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة، إلاّ أنّه هناك - في يوم القيامة - لا يوجد أي منهما ينقذ الكفّار والمنافقين من العذاب المحتوم عليهم.
وفي يوم القيامة - عادةً - تنقطع كلّ الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة، كما تنفصم الروابط حيث يقول سبحانه: (إذ تبرّأ الذين اتّبعوا من الذين ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب)(5).
(يوم لا بيع فيه ولا خلّة)(6).
(ولا يؤخذ منها عدل)(7).
(يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً)(8).
(يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً)(9).
(فلا أنساب بينهم يومئذ)(10).
(كلّ نفس بما كسبت رهينة)(11).
وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، حتّى أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملا صالحاً وآخر سيّئاً وليسوا من الغرباء مطلقاً عن الإيمان والذين قطعوا إرتباطهم بصورة كليّة من الله وأوليائه وعصوا أوامره.
ملاحظة
الإستغاثة العقيمة للمجرمين:
نظراً إلى أنّ الكثير من الناس في يوم القيامة يجهلون طبيعة النظام المهيمن هنالك ويتصوّرون أنّ نفس أنظمة الدنيا تحكم هناك أيضاً، فيحاولون إستخدامها.
إلاّ أنّه سرعان ما يتبيّن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه.
فأحياناً يتوسّل المجرمون بالمؤمنين بقولهم لهم: (انظرونا نقتبس من نوركم ...) إلاّ أنّه بسرعة يواجهون الردّ الحاسم، وهو أنّ منبع النور ليس هنا، إنّما في دار الدنيا حيث تخلّفتم عنه بالغفلة وعدم المعرفة.
وأحياناً يطلب كلّ منهم العون من الآخر (الأتباع من قائدهم) فيقولون: (فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء)(12)وهنا يواجهون الردّ المخيّب لآمالهم أيضاً.
ثمّ إنّهم يستنجدون ويلتمسون العون من خزنة جهنّم حيث يقولون: (ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوماً من العذاب)(13)
وأحياناً يتجاوزن ذلك ويلتمسون من الله أن يخفّف عنهم حيث يقولون: (ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون)(14)
ولكن هذا الطريق هو الآخر مغلق عليهم أيضاً، لأنّ عهد التكليف قد إنقضى وهذه دار الجزاء والعقاب.
1- الدرّ المنثور، ج6، ص172.
2- تفسير الصافي، ص522.
3- تفسير الصافي، ص522.
4- التحريم، الآية 8.
5- نور الثقلين، ج5، ص241، حديث60.
6- انظرونا من مادّة (نظر) في الأصل بمعنى الفكر أو النظر لمشاهدة إدراك شيء، وتأتي أحياناً بمعنى التأمّل والبحث، وكلّما تعدّت بـ (إلى) فإنّها تأتي بمعنى النظر إلى شيء، وكلّما تعدّت بـ (في) فإنّها تأتي بمعنى التأمّل والتدبّر، وعندما لا تتعدّى بدون حرف جرّ كأن نقول: (نظرية وأنظرته وانتظرته) فإنّها تأتي بمعنى التأخير أو الإنتظار (من المفردات للراغب).
7- "مولى" هنا من الممكن أن تكون بمعنى الولي، أو بمعنى الشخص أو الشيء الذي تكون له الأولوية للإنسان.
8- البقرة، الآية 166.
9- البقرة، الآية 254.
10- البقرة، الآية 48.
11- الدخان، الآية 41.
12- الطور، الآية 46.
13- المؤمنون، الآية 101.
14- المدثر، الآية 38.