الآيات 7 - 11

﴿ءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَـت بَيِّنَـت لِّيُخْرجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَثُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَـتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَـعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)﴾

التّفسير:

الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة

بعد البيان الذي تقدّم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل...

يقول سبحانه في البداية (آمنوا بالله ورسوله) إنّ هذه الدعوة دعوة عامّة لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعو - أيضاً - غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرّسول (ص)، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلّة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثمّ يدعو إلى أحد الإلتزامات المهمّة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى: (وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه).

إنّها دعوة إلى الإيثار والتضحية، وذلك بالإنفاق والعطاء ممّا منّ الله به على الإنسان، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة، وهي أنّ المالك الحقيقي هو الله عزّوجلّ، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة محدودة، كما وضعت كذلك بإختيار الأقوام السابقة.

والحقيقة أنّها كذلك، إذ مرّ بنا في الآيات السابقة أنّ المالك الحقيقي لكلّ العالم هو الله سبحانه، وأنّ الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبيّن أنّنا اُمناء على ما إستخلفنا به من قبل الله تعالى، ولابدّ للمؤمن من أن يأخذ بنظر الإعتبار أمر صاحب الأمانة.

الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه على الإنفاق.

عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أنّ الإنسان خليفة الله تعالى على الأرض، أو أنّه مستخلف عن الأقوام السابقة أو كلا المعنيين.

وتعبير (ممّا) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كلّ الممتلكات والهبات الإلهيّة.

وهنا يعني أنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل - أيضاً - العلم والهداية والسمعة الإجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثمّ يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق: (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير).

إنّ وصف الأجر بأنّه "كبير" إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية، وأبديّتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث أنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكلّ منهما، وهو بمثابة الإستدلال والبرهان، وذلك بصورة إستفهام توبيخي إبتداءاً، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسول (ص) حول الإيمان بالله فيقول سبحانه: (وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم لتؤمنوا بربّكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحقّ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.

وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعاً من العهد التكويني منكم، فآمنوا به، إلاّ أنّكم - مع الأسف - لا تقيمون وزناً لعقلكم وفطرتكم، وكذلك لا تعيرون إهتماماً لتوجيهات الوحي، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.

ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة (إن كنتم مؤمنين) هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين شاهدوا الرّسول الأكرم (ص) وسمعوا دعوته مباشرةً وبلا واسطة، وشاهدوا معجزاته بأعينهم، من الإيمان بدعوته.

في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي: أنّ الرّسول الأكرم (ص) قال لأصحابه يوماً: (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟"

قالوا: الملائكة.

قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟" قالوا: الأنبياء.

قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟" قالوا: نحن.

قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها"(1).

وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسول (ص) ويشاهدون آثاره في الكتب - فقط - ويؤمنون بأحقيّة دعوته، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.

إنّ التعبير بـ "الميثاق" يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة)، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة، وهو شاهد على هذا المعنى أيضاً.

واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلاّ أنّ هذا المعنى مستبعد إلاّ أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقاً لعالم الذرّ(2).

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: (هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإنّ الله بكم لرؤوف رحيم).

فسّر البعض (آيات بيّنات) هنا بكلّ المعجزات، وقال قسم آخر: إنّه (القرآن الكريم) إلاّ أنّ مفهوم الآية واسع يستوعب كلّ ذلك، بالرغم من أنّ التعبير (ينزّل)يناسب (القرآن) أكثر، هذا الكتاب العظيم الذي يمزّق حجب ظلام الكفر والجهل

والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس، والذي هو رحمة ونعمة إلهيّة عظيمة.

أمّا التعبير بـ (لرؤوف رحيم) فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أنّ هذه الدعوة الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثّل مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهيّة التي جاءت إليكم جميعاً، كما أنّ جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع إليكم.

وسؤال يثار هنا وهو: هل يوجد إختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما هي خصوصيات كلّ منهما؟

ذكر المفسّرون في ذلك آراء، والمناسب من بين كلّ الآراء التي ذكرت هو: أنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبّته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

قال البعض: إنّ "الرأفة" تقال للرحمة قبل ظهورها، و "الرحمة" تعبير يطلق على الحالة بعد ظهورها.

ثمّ يأتي إستدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: (وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض) أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.

(ميراث) في الأصل - كما قال الراغب في المفردات - هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون إتّفاق مسبق، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك، ولكن لكثرة إستعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.

وجملة (لله ميراث السماوات والأرض) بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعاً.

ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف سبحانه: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)(3).

هناك إختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة "الفتح" التي وردت في الآية، فقد إعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وإعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.

وبالنظر إلى أنّ كلمة "الفتح" فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة: (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضاً.

إلاّ أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من "الفتح" في هذه الآية هو جنس الفتح، والذي يمثّل إنتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية.

والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: (اُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).

والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة، أو فتح الحديبية، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو "أبو بكر".

في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسول (ص) ونزول آية الفتح والذي إستغرق من (6 - 8) سنوات، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص، طبقاً لما ورد في كتب التاريخ.

ومن الواضح أنّ أعداداً كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي، وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.

يجدر الإنتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد، وذلك إنسجاماً مع رأيهم السابق، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد بإعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية، تتهيّأ بواسطته.

إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.

وعلى كلّ حال، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع إختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية (وعد الله الحسنى).

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية: (والله بما تعملون خبير).

نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم، وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم.

ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) فينفق ممّا آتاه الله في سبيل الله (فيضاعفه له وله أجر كريم).

إنّه تعبير عجيب حقّاً، حيث إنّ الله الواهب لكلّ النعم وجميع ذرّات وجودنا - هي من بحر فيضه اللامتناهي.

وبالإضافة إلى أنّنا عبيد له يعبّر عنّا بأنّنا أصحاب الأموال، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية، حيث أنّ السائد أنّ الديون العادية تسترجع بنفس مقاديرها، إلاّ أنّه سبحانه - بفضل منه - يضاعفها لنا بالمئات أحياناً وبالآلاف أحياناً اُخرى.

وإضافة إلى ذلك فإنّه قد وعدنا بأجر كريم أيضاً، وهو جزاء عظيم لا يعلمه إلاّ هو.

بحوث

1 - بواعث الإنفاق

الشيء الجدير بالإنتباه أنّنا نلاحظ في الآيات السابقة تعبيرات مختلفة للحثّ على الإنفاق، أعمّ من المساعدة والمساهمة في موضوع الجهاد أو أنواع الإنفاق الاُخرى للمحتاجين، والتي يعتبر كلّ منها عاملا أساسيّاً ومحرّكاً باتّجاه تحقيق الهدف.

وتشير الآية السابعة لمسألة إستخلاف الناس بعضهم لبعض أو عن الله تعالى في هذه الثروة، وبما أنّ المالكية الحقيقة لله تعالى، والجميع نواباً له في هذه الأموال.

فهذا الفهم يستطيع أن يفتح في الحقيقة يد الإنسان وقلبه للإنفاق ويكون عاملا للحركة في هذا المجال.

أمّا في الآية العاشرة فقد ورد مفهوم آخر يتحدّث فيه عن حالة عدم إستقرار الأموال والممتلكات وبقائها بعد فناء الناس جميعاً، لذا يعبّر عنها بـ (ميراث السموات والأرض) وأنّها لله تعالى.

وفي الآية الحادية عشرة ورد تعبير مرهف بالحساسية، حيث يعتبر الله سبحانه الإنسان هو المقرض وأنّه تعالى هو المستقرض، وليس في هذا القرض ربا، بل فيه أرباح مضاعفة، وأحياناً مضاعفة بالآلاف عوض هذا القرض، بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي لا نستطيع تصوّره.

إنّ هذا كلّه لإزالة النظرات الخاطئة والمنحرفة ودوافع الحرص والحسد وحبّ الذات وطول الأمل التي تمنع من الإنفاق، لتكوين مجتمع على اُسس ودّية وتعاون عميق وروح إجتماعية بنّاءة.

2 - شروط الإنفاق في سبيل الله!

إنّ التعبير بـ (قرضاً حسناً) في الآية أعلاه يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إعطاء القرض بحدّ ذاته (أقسام وأنواع) فبعضها يعتبر قرضاً حسناً، والآخر قرضاً قليل الفائدة، أو حتّى عديم الفائدة أيضاً.

والقرآن الكريم يبيّن شروط القرض الحسن لله سبحانه كما وضّح ذلك في الآيات المختلفة، وبعض المفسّرين استنتجوا عشرة شروط في مجموع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الإنفاق، وهي كما يلي:

الشرط الأوّل: إنتخاب أجود الأموال للإنفاق وليس من أرخصها شأناً وقيمة، قال سبحانه: (ياأيّها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم، وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه واعلموا أنّ الله غني حميد)(4).

ثانياً: يجدر أن يكون الإنفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة الشخص المنفق، حيث يقول سبحانه: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(5).

ثالثاً: يجب أن يكون الإنفاق للأشخاص الذين هم موضع حاجة شديدة إليه، وتؤخذ بنظر الإعتبار الأولويات في إنفاقه، قال تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)(6).

رابعاً: الأفضل والأولى في الإنفاق أن يكون محاطاً بالسّرية والكتمان قال تعالى: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)(7).

خامساً: أن لا يقترن الإنفاق منّ ولا أذى أبداً، قال تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى)(8).

سادساً: أن يكون توأماً مع خلوص النيّة قال تعالى: (ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله)(9).

سابعاً: الشعور بضئالة العطاء وأنّه صغير لا قيمة له حتّى وإن كان كثيراً ومهمّاً، وذلك تلبية لأمر الله وإنتظاراً للجزاء الذي أعدّه للمنفقين.

قال تعالى: (ولا تمنن تستكثر)(10) (11).

ثامناً: أن يكون الإنفاق ممّا تعلّق قلبه به من الأموال، وخاصّة تلك التي تكون موضع تعلّق وشغف، قال تعالى: (لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون)(12).

تاسعاً: أن لا يرى المنفق أنّه هو المالك للأموال، حيث أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه، ويعتبر المنفق نفسه واسطة بين الخالق والمخلوق، قال تعالى: (وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه)(13).

عاشراً: أن يكون الإنفاق من المال الحلال، لأنّه هو الذي يقبل فقط من قبل الله سبحانه، قال تعالى:(إنّما يتقبّل الله من المتّقين)(14).

وجاء في حديث أنّ الرّسول (ص) قال: "لا يقبل الله صدقة من غلول"(15).

والذي ذكرناه أعلاه هو قسم مهمّ من الضوابط والشروط اللازمة للإنفاق، ولا تنحصر به، ونستطيع من خلال التدقيق والتأمّل في الآيات الكريمة والروايات الإسلامية أن نتعرّف على شروط اُخرى أيضاً.

ثمّ إنّ ما قيل من الشروط بعضها واجب كـ (عدم الأذى والمنّ والإعلان في العطاء) والبعض الآخر مستحبّ ومن شروط الكمال كـ (الإيثار على النفس) حيث إنّ عدمه لا يقلّل من قيمة الإنفاق، بالرغم من أنّ الإنفاق في هذه الحالة لا يرتقي إلى مستوى الإنفاق العالي من حيث الدرجة.

ومع أنّ ما قيل هنا خاصّ في الإنفاق في سبيل الله (الإقراض لله) إلاّ أنّه أيضاً يصدق في كثير من القروض العادية، لأنّ هذه الشروط من الاُمور اللازمة أو من شروط الكمال للقرض الحسن.

وحول أهميّة الإنفاق في سبيل الله فقد ذكرنا شرحاً مفصّلا تفسير الآيات من (261 - 267) من سورة البقرة.

3 - السابقون في الإيمان والجهاد والإنفاق

الأشخاص الذين يتقدّمون على غيرهم بالإيمان والعمل الصالح فهم ذوو وعي وشجاعة وإيثار وتضحية أكثر من الآخرين بلا شكّ، ولذا فإنّ درجات المؤمنين غير متساوية عند الله، والآية الكريمة إعتمدت هذا المفهوم وميّزت بين الأشخاص الذين أنفقوا قبل الفتح: (سواء كان فتح مكّة أو الحديبية أو مطلق الفتوحات الإسلامية) وجاهدوا أيضاً، وبين الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد.

نقل في حديث عن (أبي سعيد الخدري) أنّه قال: "خرجنا مع رسول الله في عام الحديبية (السنة السادسة للهجرة) حتّى إذا كان بعسفان - مكان قريب من مكّة - قال رسول الله: "يوشك أن يأتي قوم تحقّرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من يارسول الله؟ أقريش؟ قال: "لا، ولكنّهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة وألين قلوباً" قلنا: أهم خير منّا يارسول الله؟ قال: "لو كان لأحدهم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك مُدّ (16) أحدكم ولا نصفيه، ألا إنّ هذا فصل ما بيننا وبين النساء لا يتسوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل"(17).

والنقطة التالية جديرة بالملاحظة أيضاً وهي: أنّ الإقراض لله تعالى هو كلّ إنفاق في سبيله، وأحد مصاديقه المهمّة الدعم الذي يقدّم للرسول(ص) وأئمّة المسلمين من بعده، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية.

لذا نقل في الكافي رواية عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ الله لم يسأل خلقه ممّا في أيديهم قرضاً من حاجة به إلى ذلك، وما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّه"(18).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (ع) حول نهاية الآية مورد البحث: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً...) أنّه قال: "نزلت في صلة الإمام"(19).


1- روح البيان، ج9، ص351.

2- "يولج" من مادّة (إيلاج) وهي الاُخرى مأخوذة من مادّة (ولوج) والولوج بمعنى الدخول والنفوذ، والإيلاج بمعنى الإدخال والإنفاذ.

3- الدرّ المنثور، ج6، ص171.

4- صحيح البخاري طبقاً لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.

5- راجع هذا التّفسير، نهاية الآية (172) من سورة الأعراف.

6- للآية محذوف يستفاد من المذكور، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا).

7- البقرة، الآية 267.

8- الحشر، الآية 9.

9- البقرة، الآية 273.

10- البقرة، الآية 271.

11- البقرة، الآية 264.

12- البقرة، الآية 265.

13- لهذه الآية تفاسير متعدّدة، أحدها ما ذكر أعلاه وستطالعون بعون الله شرحاً أكثر في تفسير سورة المدثر إن شاء الله.

14- المدثر، الآية 6.

15- آل عمران، الآية 92.

16- الحديد، الآية 7.

17- المائدة، الآية 27.

18- ذكر الطبرسي (قدس سره) هذه الشروط العشرة في مجمع البيان والفخر الرازي في التّفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني وقد أدرجناها بإختصار.

19- الظاهر أنّ المقصود من (المدّ الواحد من الطعام) هو أقلّ من الكيلو.