الآيات 4 - 6
﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ(4) لَّهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (5) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)﴾
التّفسير:
على عرش القدرة دائماً:
تحدّثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهيّة المقدّسة، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافاً اُخرى حيث اُشير في الآية الاُولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اُخرى من صفات جلاله وجماله.
ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام).
لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيّام) سبع مرّات في القرآن الكريم، المرّة الاُولى في الآية 54 من سورة الأعراف، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد - الآية4).
وكما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم)، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيراً أو طويلا حتّى لو بلغ ملايين السنين، وهذا التعبير يستعمل أيضاً في لغة العرب واللغات المختلفة، كما يقال مثلا: اليوم يحكم فلان، وغداً سيكون لغيره، بمعنى الدورة الزمنية.
وقد بيّنا هذا المعنى مع شرح وأمثلة في نهاية الآية 54 من سورة الأعراف.
وطبيعي أنّه لا يوجد أي مانع لله عزّوجلّ من خلق جميع العالم في لحظة واحدة، ولكن في هذه الحالة سوف لا تتجلّى عظمة الله وقدرته وعلمه بشكل جيّد، وبعكس عظمة وقدرة وعلم الله بصورة أقل، ذلك خلق هذه العوالم خلال ملياردات السنين وفي أزمنة وحالات مختلفة ووفقاً لبرامج منظّمة ومحسوبة سيدلل أكثر على قدرته وحكمته، بالإضافة إلى أنّ التدرّج في الخلق سيكون نموذجاً للسير التكاملي للإنسان، وعدم السرعة والإستعجال في الوصول إلى الأهداف المختلفة.
ثمّ تتطرّق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه: (ثمّ استوى على العرش).
إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائماً بيده ولا زالت، وبدون شكّ فإنّ الله تعالى ليس جسماً، ولذا فليس معنى "العرش" هنا هو عرش السلطة، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة لله سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.
"عرش" في اللغة بمعنى الشيء المسقوف، وتطلق أحياناً للسقف نفسه، ويعني أيضاً التخوت العالية (عرش السلاطين).
وتستعمل هذه اللفظة كناية عن القدرة أيضاً كما يقال في اللغة العربية: (فلان ثلَّ عرشه)(1).
وعلى كلّ حال - وخلافاً لما يتصوّره البعض ممّن أعمى الله بصيرتهم أنّه سبحانه وتعالى قد خلق العالم وتركه وشأنه - فإنّ زمام تدبير العالم وتسيير حكومته في كفّ قدرته، وإرتباط أنظمة العالم، بل كلّ فرد من أفراد الوجود بذاته المقدّسة، بحيث إذا أعرض لحظة واحدة عن الكائنات وقطع فيضه عنهم فإنّ الوجود سينتهي.
والتوجّه إلى هذه الحقيقة يعطي للإنسان إدراكاً وبصيرة، وهي أنّ الله تعالى في كلّ مكان ومع كلّ شيء، وهو يرى ويسمع ويراقب ويدير الوجود بحكمته ولطفه.
ثمّ يستعرض نوعاً آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).
وبالرغم من أنّ جميع هذه الاُمور التي ذكرت في الآيات السابقة قد جمعت في تعبير (وهو بكلّ شيء عليم) إلاّ أنّ توضيح هذه الاُمور يعطي للإنسان توجّهاً أكثر في مجال سعة علم الله.
نعم، إنّ جميع ما ينفذ في الأرض يعلم به الله، سواء قطرات المطر والسيول.
ومن بذور النبات التي تنتشر في الأرض بمساعدة الهواء والحشرات.
ومن جذور الأشجار التي تنفذ - بحثاً عن الماء والغذاء - إلى أعماق الأرض.
ومن أنواع المعادن والذخائر التي كانت يوماً على سطح الأرض ثمّ دفنت فيها.
من أجساد الموتى وأنواع الحشرات ...نعم انّه يعلم بكلّ ذلك.
ثمّ انّه يعلم بالنباتات التي تخرج من الأرض.
وبالعيون التي تفور من أعماق التراب والصخور.
وبالمعادن والكنوز التي تظهر.
وبالبشر الذين ظهروا ثمّ ماتوا.
وبالبراكين التي تخرج من أعماقها.
وبالحشرات التي تخرج من بيوتها وجحورها.
وبالغازات التي تتصاعد منها.
وبأمواج الجاذبية التي تصدر منها الجاذبية ... الله تعالى يعلم بذلك جزءاً جزءاً وذرّة ذرّة.
وكذلك ما ينزل من السماء من قطرات المطر إلى أشعّة الشمس الباعثة للحياة.
ومن الأعداد العظيمة من الملائكة إلى أنوار الوحي والكتب السماوية.
ومن أشعّة الكونية إلى الشهب والنيازك المنجذبة نحو الأرض، إنّه عالم بأجزاء كلّ ذلك.
وكذلك ما يصعد إلى السماء، أعمّ من الملائكة، وأرواح البشر، وأعمال العباد، وأنواع الأدعية، وأقسام الطيور، والأبخرة، والغيوم وغير ذلك، ممّا نعلمه وممّا لا نعلمه، فإنّه واضح عند الله وفي دائرة علمه.
وإذا فكّرنا قليلا بأنّ في كلّ لحظة تدخل الأرض ملايين الملايين من الموجودات المختلفة، وملايين الملايين من الموجودات تخرج منها، وملايين الملايين تنزل من السماء أو تصعد إليها، حيث تخرج عن العدّ والحصر والحدّ، ولا يستطيع أي مخلوق أن يحصيها...إذا فكّرنا بهذا الموضوع قليلا فسنعرف مدى إتّساع علمه سبحانه.
وأخيراً في رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمّة حيث يقول: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير).
وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه، ليس في إيجادنا فحسب بل في البقاء لحظة بلحظة - أيضاً - ونستمدّ منه العون، إنّه روح عالم الوجود، بل هو أعلى من ذلك وأسمى.
فالله معنا في كلّ الحالات وفي كلّ الأوقات، فهو معنا يوم كنّا ذرّة تراب مهملة، وهو معنا يوم كنّا أجنّة في بطون اُمّهاتنا، وهو معنا طيلة عمرنا، وفي عالم البرزخ...فهل بالإمكان - مع هذا - ألاّ يكون مطّلعاً علينا؟
الحقيقة أنّ الإحساس بأنّ الله معنا في كلّ مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالا من جهة، ومن جهة اُخرى يخلق فيه إعتماداً على النفس وشجاعة وشهامة، ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساساً شديداً بالمسؤولية، لأنّ الله حاضر معنا في كلّ مكان، وناظر ومراقب لأعمالنا، وهذا أكبر درس تربوي لنا.
وهذا الإعتقاد يمثّل دافعاً جدّياً للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.
أجل: إنّ مسألة أنّ الله تعالى معنا دائماً وفي كلّ مكان هي حقيقة وليست كناية ومجازاً، حقيقة مقبولة للنفس ومربّية للروح، ومولّدة للخوف والمسؤولية.
ولذا ورد عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ من أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله تعالى معه حيث كان"(2).
ونقرأ في حديث آخر أنّ موسى (ع) قال: "أين أجدك ياربّ، قال عزّوجلّ: ياموسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ"(3).
وفي الأساس فإنّ هذه (المعيّة) أي كون الله عزّوجلّ مع عباده، ظريفة ودقيقة بحيث أنّ كلّ إنسان مؤمن متفكّر يدركها بقدر فكره وإيمانه.
وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في كلّ عالم الوجود، حيث يقول: (له ملك السموات والأرض).
وأخيراً يشير إلى مسألة مرجعيّته فيقول تعالى: (وإلى الله ترجع الاُمور).
نعم، عندما يكون الخالق والمالك والمدبّر معنا في كلّ مكان، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.
نحن سلكنا طريق عشقه ومحبّته، وبدأنا المسير حاملين معنا الأمل من نقطة العدم باتّجاهه، وقد سلكنا شوطاً طويلا إلى أن وصلنا إلى مرتبة الوجود...نحن من الله سبحانه، وإليه نرجع، لماذا؟ لأنّه هو المبدىء وإليه المنتهى.
والجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الآنفة الذكر قد جاء فيها مثل هذا الوصف أيضاً: (له ملك السماوات والأرض).
ويمكن أن يكون التكرار هنا بلحاظ أنّ الحديث كان - فقط - عن مسألة حياة وموت الموجودات الحيّة، وهنا نلاحظ توسّع البحث وشموليّته في رجوع كلّ شيء لله سبحانه.
وفي تلك الآيات مقدّمة عن بيان قدرة الله عزّوجلّ على كلّ شيء، وهنا مقدّمة لرجوع كلّ شيء إليه، وهاتان القضيّتان تستلزمان مالكيّة الله عزّوجلّ للأرض والسماء.
التعبير بـ "الاُمور" جاء - هنا - بصيغة الجمع، أي: أنّ جميع الموجودات - وليس الإنسان فحسب - تتحرّك باتّجاهه حركة دائمة وغير قابلة للتوقّف.
وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية لا ينحصر - فقط - برجوع البشر إليه في الآخرة، بالرغم من أنّ موضوع المعاد من المصاديق البارزة لذلك الرجوع العامّ.
وفي آخر مورد للبحث يشير إلى صفتين اُخريين بقوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)(4).
نعم، بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر، وتبعاً لذلك يتغيّر طول النهار والليل في السنة، وهذا التغيّر يكون مصحوباً بالفصول الأربعة في السنة مع كلّ البركات التي تكون مختّصة في هذه الفصول لبني الإنسان.
وهناك تفسير آخر لهذه الآية وهو: إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات حتّى لا تجلب هذه الحالة المشاكل للإنسان والموجودات الحيّة الاُخرى، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجيّة، وتنتقل الموجودات رويداً رويداً من عالم الضوء في النهار إلى ظلمة الليل، ومن ظلمة الليل إلى ضوء النهار، ويعلن كلّ منهما وصولهما قبل مدّة حتّى يتهيّأ الجميع لذلك.
والجمع بين التّفسيرين لمفهوم الآية ممكن أيضاً.
ويضيف سبحانه في النهاية: (وهو عليم بذات الصدور).
فكما أنّ أشعّة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل، وتضيء كلّ مكان، فإنّ الله عزّوجلّ ينفذ كذلك في كلّ زوايا قلب وروح الإنسان، ويطّلع على كلّ أسراره.
والنقطة الجديرة بالملاحظة في الآيات السابقة أنّ الحديث كان عن علم الله سبحانه بأعمالنا (والله بصير عليم) وهنا الكلام عن علم الله عزّوجلّ بأفكارنا وعقائدنا وما تكنّه صدورنا، (وهو عليم بذات الصدور).
كلمة (ذات) في الإصطلاح الفلسفي تعني (عين الشيء وحقيقته) إلاّ أنّها في اللغة بمعنى (صاحب الشيء) وبناءً على هذا فإنّ (ذات الصدور) إشارة إلى النيّات والإعتقادات التي إستولت على قلوب البشر.
وكم هو رائع أن يؤمن الإنسان بكلّ هذه الصفات الإلهيّة من أعماق نفسه، ويحسّ حضوره سبحانه في كلّ أعماله ونيّاته وعقائده، إحساساً لا يخرجه عن جادّة الطاعة وطريق العبودية، إحساساً يبعده عن طريق العصيان والسوء والإنحراف ...
تعقيب
آيات الإسم الأعظم:
قسّم الفلاسفة والمتكلّمون الصفات الإلهيّة إلى قسمين:
أحدهما: "صفات الذات" والتي تبيّن أوصاف جلاله وجماله.
والاُخرى: "صفات الفعل" التي تبيّن الأفعال الصادرة من ذاته المباركة، كما جاء في الآيات الستّ في بداية هذه السورة المباركة، والتي يجدر أن تسمّى: بـ (آيات المتعمّقين) تماشياً مع حديث في هذا الصدد.
وقد وردت عشرون صفة من أوصاف الذات الإلهيّة والأفعال بدءاً من علمه وقدرته وحكمته وأزليّته وأبديّته سبحانه، إلى خلقه وتدبيره ومالكيّته وإحاطته عزّوجلّ بكلّ الموجودات وحضوره في كلّ مكان، هذه الأوصاف والتعابير تعطينا عمقاً أكثر في التوجّه إلى الإيمان والسعي لإضاءة مشعل وجودنا وأفكارنا المحدودة ليكون عوناً أفضل في إمدادنا بما يجعلنا في المسير التكاملي نحو الله سبحانه.
وجاء في حديث "براءة بن عازب" أنّه قال: قلت لعلي (ع): ياأمير المؤمنين، أسألك بالله ورسوله ألا خصّصتني بأعظم ما خصّك به رسول الله (ص) واختصّه به جبرائيل، وأرسله به الرحمن، فقال (ع): "إذا أردت أن تدعو باسمه الأعظم، فاقرأ من أوّل سورة الحديد إلى آخر ستّ آيات منها عليم بذات الصدور، وآخر سورة الحشر يعني أربع آيات ثمّ ارفع يديك فقل: يامن هو هكذا أسألك بحقّ هذه الأسماء أن تصلّي على محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا - ممّا تريد - فوالله الذي لا إله غيره لتنقلبنّ بحاجتك إن شاء الله"(5).
وفي عظمة هذه الآيات وأهميّة محتواها نكتفي بهذا الحديث، ويجب ألاّ ننسى أنّ إسم الله العظيم ليس بالألفاظ فقط، إذ يجب التخلّق بمعانيه أيضاً.
1- تفسير القرطبي، ج9، ص6406.
2- نهج البلاغة، خطبة 163.
3- تفسير نور الثقلين، ج5، ص236.
4- لقد ذكرنا توضيحات أكثر حول حقيقة العرش في نهاية الآية (54) من سورة الأعراف، وفي نهاية الآية (255) من سورة البقرة.
5- الدرّ المنثور، ج6، ص171.