الآيات 21-28 من سورة نوح
قوله تعالى: ﴿قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلَالًا، مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا، وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا﴾
القراءة:
قرأ (ماله وولده) بالفتح نافع وعاصم وابن عامر. والباقون بضم الواو وسكون اللام، وهما لغتان مثل حزن وحزن ونخل ونخل وعدم وعدم. وقال قوم: الولد - بالضم - جمع ولد مثل رهن ورهن وعرب وعرب وعجم وعجم. وقرأ نافع (ودا) بضم الواو. الباقون بفتحها، وهما لغتان، وهو اسم الصنم. وقال قوم: بالضم المحبة، وبالفتح الصنم. والسواع - ههنا - صنم، وفى غير هذا الساعة من الليل. ومثله السعواء. وقرأ أبو عمرو (خطاياهم) على جمع التكسير. الباقون (خطيئاتهم) على جمع السلامة. حكى الله تعالى عن نوح أنه (قال) داعيا الله (يا رب انهم) يعني قومه (عصوني) فيما آمرهم به وأنهاهم عنه، فالمعصية مخالفة المراد إلى المكروه المزجور عنه. ومخالفة ما أراده الحكيم تكون على وجهين:
أحدهما: على المأذون فيه من غير أن يريده.
الآخر: إلى المكروه المزجور عنه، فهو بالأول مقصر عن ما هو الأولى فعله. وبالثاني عاص. وقوله (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) تمام الحكاية عن نوح أنه وصف به قومه بأنهم عصوه فيما دعاهم إليه واتبعوا الذي لم يزده ماله وولده إلا خسارا يعني هلاكا، فالخسار الهلاك بذهاب رأس المال ففيه معنى الهلاك وليس كذلك الخسران، لأنه محتمل للقليل الذي لا يجحفه ذهابه والكثير الذي يجحف وأما الخسار ففيه معنى ذهاب الكثير، ولهذا بني على صفة الهلاك. وقوله (ومكروا مكرا كبارا) فالمكر الفتل بالحيلة الخفية إلى خلاف الجهة الموافقة بما فيها من المضرة، مكر يمكر مكرا، فهو ماكر، والشئ ممكور به، قال ذو الرمة:
عجزاء ممكورة خمصانة قلق * عنها الوشاح وتم الجسم والقصب (1)
أي ملتفة مفتولة. والكبار الكبير - في قول مجاهد وابن زيد - يقولون عجيب. وعجاب بالتخفيف والتشديد. ومثله جميل وجمال وجمال وحسن وحسان. (وقالوا) يعني الكفار بعضهم لبعض (لا تذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة أصنامكم (ولا تذرن ودا ولا سواعا) وهما صنمان لهم كانوا يعبدونهما، فكانت (ود) لكلب (وسواع) لهمدان (ويغوث) لمذحج (ويعوق) لكنانة (ونسرا) لحمير - في قول قتادة -. وقوله (قد أضلوا كثيرا) معناه ضل بهم خلق كثير. وقيل: معناه إن عبادتهم أضلت خلقا عن الثواب لمن استحق العقاب، وأضلهم بالذم والتحسر عن حال أهل الفلاح، وإنما جمع الأصنام بالواو لما أسند إليها ما يسند إلى العالم من استحقاق العبادة، ولم يصرفوا (يغوث) و (يعوق) لأنه على لفظ المضارع من الافعال، وهي معرفة، وقد نونهما الأعمش، واخراجهما مخرج النكرات أي صنما من الأصنام. ثم قال نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) ومعناه إلا عذابا وسمي العذاب ضلالا كقوله (إن المجرمين في ضلالا وسعر) (2) وقيل: كانت هذه الأصنام المذكورة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب فيما بعد - في قول ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد - ولا يجوز في صفة الحكيم الاضلال عن الايمان. وقوله (مما خطاياهم) (ما) صلة وتقديره من خطاياهم بمعنى من أجل ما ارتكبوه من الخطايا والكفر (أغرقوا) على وجه العقوبة (فادخلوا) بعد ذلك (نارا) ليعاقبوا فيها (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) أي من يدفع عنهم ما نزل بهم من العقاب المستحق على كفرهم. ثم حكى ما قال نوح أيضا فإنه قال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) قال قتادة: ما دعا عليهم إلا بعد ما أنزل عليه (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) (3) فلذلك قال (إنك) يا رب (ان تذرهم) يعني تتركهم ولا تهلكهم (يضلوا عبادك) عن الدين بالاغواء عنه والدعاء إلى خلافه (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) وإلا فلم يعلم نوح الغيب، وإنما قال ذلك بعد أن اعلمه الله ذلك وإنما جاز أن يقول (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) فيسيمهم بالكفر والفجور قبل أن يعملوه، لأنه على وجه الحكاية والاخبار بما يكون منهم لو وجدوا لا على وجه الذم لهم، لاقتضاء العقل على أنه لا يذم على الكفر من لم يكن منه كفر، فكأنه قال ولا يلدوا إلا من إذا بلغ كفر، و (الديار) فيعال من الدوران، أي ولا تذر على الأرض منهم أحدا يدور في الأرض بالذهاب والمجئ قال الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا * ألا يجاورنا إلاك ديار (4)
أي إلا إياك، فجعل المتصل موضع المنفصل ضرورة. وقال الزجاج: تقول ما في الدار أحد، ولا بها ديار، وأصله ديوار (فيعال) فقلبت الواو ياء. وأدغمت إحداهما في الأخرى. والفاجر من فعل الفجور، وهي الكبيرة التي يستحق بها الذم. و (الكفار) من أكثر من فعل الكفر لأنه لفظ مبالغة. وكافر يحتمل القليل والكثير. ثم حكى ان نوحا سأل الله تعالى فقال (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) قيل المراد بالبيت مسجده. وقيل أراد سفينته. وذلك على وجه الانقطاع إليه تعالى، لأنه لا يفعل معصية يستحق بها العقاب. فأما والده والمؤمنون والمؤمنات الذين استغفر لهم فيجوز أن يكون منهم معاص يحتاج أن يستغفرها لهم. وقوله (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) فالتبار الهلاك والعقاب، وكل من أهلك فقد تبر، ولذلك سمي كل شئ مكسر تبرا، ويجوز أن يكون معناه لا تزدهم إلا ضالا أي عذابا على كفرهم. وقال البلخي: لا تزدهم إلا منعا من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم، فإنهم إذا ضلوا استحقوا منع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها، ويمتثلون أمر الله، ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق، لأنه سفه فتعال الله عن ذلك علوا كبيرا.
1- مر في 4 / 513، 541 و 5 / 128.
2- سورة 54 القمر آية 47.
3- سورة 11 هود آية 36.
4- أوضح المسالك 1 / 60.