الآيات 83 - 87

﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـكِن لاَّ تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (87)﴾

التّفسير

عندما تصل الروح إلى الحلقوم:

من اللحظات الحسّاسة التي تقلق الإنسان دائماً هي لحظة الإحتضار ونهاية العمر، في تلك اللحظة يكون كلّ شيء قد إنتهى، وقد جلس أهله وأحبّاؤه ينظرون إليه بيأس كشمعة قد إنتهى أمدها وستنطفىء رويداً رويداً، حيث يودّع الحياة دون أن يستطيع أحد أن يمدّ إليه يد العون.

نعم، إنّ الضعف التامّ للإنسان يتجسّد في تلك اللحظات الحسّاسة ليس في العصور القديمة فحسب بل حتّى في عالمنا المعاصر، فمع توفّر جميع الإمكانات الطبيّة والفنيّة والوسائل العلاجية فإنّ الضعف يتجلّى في ساعة الإحتضار.

وتكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذّبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه: (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) ولا تستطيعون عمل شيء من أجله(1).

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الإحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلّى لهم قدرة الله تعالى على كلّ شيء، حيث أنّ الموت والحياة بيده، وأنّهم - أي أقاربه - سيلاقون نفس المصير(2).

ثمّ يضيف سبحانه (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون).

نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية إنتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وطبيعة المخاضات الصعبة التي يعيشها في هذه اللحظة.

وبناءً على هذا فالمقصود من الآية هو: قرب الله عزّوجلّ من الشخص المحتضر، بالرغم من أنّ البعض إحتمل المقصود بالقرب (ملائكة قبض الروح) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل منسجم مع ظاهر الآية أكثر.

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه ليس في هذه اللحظات أقرب إلينا من كلّ أحد، بل هو في كلّ وقت كذلك، بل هو أقرب إلينا حتّى من أنفسنا، بالرغم من أنّنا بعيدون عنه نتيجة غفلتنا وعدم وعينا، ولكن هذا المعنى في لحظة الإحتضار يتجلّى أكثر من أي وقت آخر.

ثمّ للتأكيد الأشدّ في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى: (فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين).

إنّ ضعفكم هذا دليل أيضاً على أنّ مالك الموت والحياة واحد، وأنّ الجزاء بيده، وهو الذي يحي ويميت.

"مدينين": جمع (مدين) من مادّة (دَين) بمعنى الجزاء، وفسّرها البعض بمعنى المربوبين.

والمعنى هو: ياأيّها العباد، إن كنتم تحت ربوبية موجود آخر، ومالكي نواصي اُموركم، فارجعوا أرواحكم التي قبضناها، وهيهات تقدرون! وهذا دليل آخر على أنّكم في قبضة الحكومة الإلهية.

تعقيب

1 - لحظة ضعف الجبّارين

إنّ الهدف من هذه الآيات - في الحقيقة - هو بيان قدرة الله عزّوجلّ على مسألة الموت والحياة، كي ينتقل منها إلى مسألة المعاد وإختيار لحظات الإحتضار والموت هنا لظهور غاية الضعف الإنساني بالرغم من كلّ القوّة التي يتصوّرها لنفسه.

ومن المفيد أن نستعرض بعض حالات الجبّارين لحظة إحتضارهم بالرغم من أنّهم كانوا في أوج القدرة حتّى يتّضح المعنى العميق لهذه الآية بصورة أفضل.

حكى المسعودي في مروج الذهب في أخبار المأمون وغزاته أرض الروم ما هذا ملخّصه: وإنصرف من غزاته إلى منزل على (عين البديدون) المعروفة بالقشيرة فأقام هنالك، فوقف على العين فأعجبه برد مائها وصفاؤه وبياضه وطيب حسن الموضع، وكثرة الخضرة فأمر بقطع خشب طويل منبسط على العين كالجسر، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر، وجلس تحت الكنسية التي عقدت له، والماء تحته، وطرح في الماء درهم صحيح، فقرأ كتابته وهو في قرار الماء لصفاء الماء، ولم يقدر أحد أن يدخل يده من شدّة برده.

فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنّها سبيكة فضّة، فجعل لمن يخرجها سيفاً فبدر بعض الفراشين فأخذها وصعد فلمّا صارت على حرف العين أو على الخشب الذي عليه المأمون إضطربت وإنفلتت من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلّت ثوبه، ثمّ إنحدر الفرّاش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال المأمون: تقلى الساعة ثمّ أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرّك من مكانه، فغطّي باللحف والدواويج وهو يرتعد كالسعفة ويصيح: البرد البرد، ثمّ حوّل إلى المغرب ودثّر واُوقدت النيران حوله وهو يصيح: البرد البرد، ثمّ اُتي بالسمكة وقد فرغ من قليها فلم يقدر على الذوق منها وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.

ولمّا اشتدّ به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسوية في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدلّ عليه علم الطبّ من أمره، وهل يمكن برؤه وشفاؤه، فتقدّم ابن ماسوية وأخذ إحدى يديه وبختيشوع الاُخرى، وأخذا يجسّان كلتا يديه فوجدا نبضه خارجاً عن الإعتدال منذراً بالفناء والإنحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر منه من سائر جسده كالزيت أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك فأنكرا معرفته، وأنّهما لم يجداه في شيء من الكتب وأنّه دالّ على إنحلال الجسد، فأحضر المعتصم الأطباء حوله وهو يأمل خلاصه ممّا هو فيه، فلمّا ثقل قال: أخرجوني أشرف على عسكري وأنظر إلى رحالي وأتبيّن ملكي، وذلك في الليل، فاُخرج فأشرف على الخيم والجيش وإنتشاره وكثرته وما قد وقد من النيران، فقال: يامن لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، ثمّ ردّ إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلا يشهده.

ولمّا ثقل رفع الرجل صوته ليقولها (أي الشهادة) فقال له ابن ماسوية: لا تصحّ فوالله ما يفرّق بين ربّه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح عينيه من ساعته وبهما من العظمة والكبر والإحمرار ما لم ير مثله قطّ.

وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، وقضى عن ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرطوس فدفن بها(3).

ويحتمل أن يكون لمرضه سابقة، ويقول بعض المؤرخّين: إنّ كلّ شخص شرب من ماء تلك العين مرض، أو أنّ السمكة كانت تحتوي على رشح سامّ، وكيفما كان فإنّ الحكومة بتلك العظمة قد إنهارت في بضع لحظات، وإنحنى بطل ميادين الحرب أمام شراع الموت، ولم تكن القدرة لأي شخص أن يصنع شيئاً للمأمون، أو على الأقل ليوصله إلى مقرّه ومسكنه.

وللتاريخ خواطر وقصص كثيرة فيها دروس وعبر من هذا القبيل.

ثانياً: هل أنّ قبض الروح يكون تدريجيّاً؟

إنّ التعبير بوصول الروح إلى الحلقوم كما في قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) كناية عن آخر لحظات الحياة، كما أنّه من المحتمل أن يكون منشؤها هو أنّ غالبية أعضاء جسم الإنسان كالأيدي والأرجل تتعطّل عند الموت قبل بعض الأعضاء الاُخرى، والحلقوم هو العضو الأخير الذي يتوقّف عن العمل.

قال تعالى: (كلاّ إذا بلغت التراقي)،(4) (والترقوة) هي العظام التي تحيط بأطراف الحلق.


1- للآية محذوف تقديره (فلولا إذا بلغت الحلقوم لا ترجعونها ولا تملكون شيئاً) وهذا ما يستفاد من الآيات اللاحقة وقد لحقت تاء التأنيث بالفعل لأنّها متعلّقة بالنفس.

2- إحتمل البعض أنّ المخاطب هنا هو الشخص المحتضر، وهذا بعيد جدّاً حسب الظاهر، لأنّ الآية اللاحقة توضّح بصورة جيّدة أنّ المخاطب هم متعلّقو المحتضر.

3- مروج الذهب، طبق لنقل سفينة البحار، ج1، ص44.

4- القيامة، 26.