الآيات 75 - 82

﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ (77) فِى كِتَـب مَّكْنُون (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ(79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ (80) أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)﴾

التّفسير

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن:

إستمراراً للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد، ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم بإعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية، فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثاً عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد، فإنّه يعتبر تحكيماً لهذين الأصلين.

يبدأ الحديث بقسم عظيم، حيث يقول سبحانه: (فلا اُقسم بمواقع النجوم).

يعتقد الكثير من المفسّرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الاُخرى حول القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق، وما إلى ذلك.

في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ (لا) هنا جاءت للنفي، حيث قالوا: إنّ المطلب (مورد القسم) أهمّ من أن يقسم به، كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة: نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني، أي نفي القسم وأنّ (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة، فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها؟

وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لها:

الأوّل: هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.

والآخر: هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.

والثّالث: هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.

وفسّرها آخرون: بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط.

وإعتبرها آخرون إشارة وإنسجاماً مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة، وذلك لأنّ "النجوم" جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة.

وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافى حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات، بعكس الحالة اليوم، والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب، وذلك طبقاً لقانون الجاذبية، وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضاً وفق قانون معيّن وثابت.

وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام السماوية البعيدة، إلاّ أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا، قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش.

وعندما يلاحظ الإنسان - طبقاً لتصريحات العلماء - أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة، وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ، عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني.

ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي:

"يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات، والتي نرى قسماً منها بالعين المجرّدة، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلاّ بالتلسكوبات بل إنّ قسماً منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات، اللهمّ إلاّ بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها.

كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ، ولا يوجد أي إحتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة اُخرى.

أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر، وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو إفترضنا أنّ سفينة في المحيط الهاديء تصطدم مع سفينة اُخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الاُخرى وبسرعة واحدة ... إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّاً.

كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالاُخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها"(1).

وبالنظر إلى هذه الإكتشافات العلمية عن وضع النجوم، تتوضّح أهميّة القسم أعلاه، ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة: (وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم).

التعبير بـ (لو تعلمون) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه: (إنّه لقرآن كريم).

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون بإستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن - والعياذ بالله - أو أنّه حديث جنوني أو شعر، أو أنّه من قبل الشيطان .. فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله، وأنّ هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.

إنّ وصف القرآن بـ "الكريم" (بما أنّ الكرم بالنسبة لله هو: الإحسان والإنعام، ويستعمل للبشر بمعنى اتّصاف الشخص بالالاخلاق والإحسان، وبصورة عامّة فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة)(2) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل، وكذلك فإنّها إشارة لمحتواه الرائع، لأنّه نزل من قبل مبدأ ومنشأ كلّه كمال وجمال ولطف.

نعم، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك، وأهدافه كريمة أيضاً.

ثمّ يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى: (في كتاب مكنون).

إنّه في "لوح محفوظ" في علم الله، محفوظ من كلّ خطأ وتغيير وتبديل، وطبيعي أنّ الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند الله، فإنّه مصون من كلّ تحريف وخطأ وإشتباه.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)(3).

ذكر الكثير من المفسّرين - تماشياً مع بعض الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين - بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

في الوقت الذي إعتبر بعض آخر أنّها إشارة إلى الملائكة المطهّرين الذين لهم علم بالقرآن، ونزلت بالوحي على قلب الرّسول (ص) في مقابل قول المشركين الذين كانوا يقولون: إنّ هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمّد (ص).

كما إعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلاّ المطهّرون، كما في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين).(4)

وبتعبير آخر فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّاً أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

إنّ التفاسير الثلاثة المارّة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبداً ويمكن جمعها في مفهوم الآية مورد البحث.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى: (تنزيل من ربّ العالمين)(5) إنّ الله المالك والباريء لجميع الخلق، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر، وقد أنزله سبحانه على قلب النّبي الطاهر، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى ربّ العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي، فكلّ نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

ثمّ يضيف سبحانه: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدّمة تتساهلون، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلّة الصادقة والحقّة بوضوح، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكلّ جديّة، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشكّ فيها.

عبارة "هذا الحديث" في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم، و "مدهنون" في الأصل من مادّة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة واُمور اُخرى، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ... ولأنّ المنافقين والكاذبين غالباً ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة، لذا إستعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى التكذيب والإنكار، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

والأصل في الإنسان أن يتعامل بجديّة مع الشيء الذي يؤمن به، وإذا لم يتعامل معه بجديّة فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.

وفي آخر آية - مورد البحث - يقول سبحانه إنّكم بدلا من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصّة نعمة القرآن الكبيرة، فانّكم تكذّبون به: (وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون)(6).

قال البعض: إنّ المقصود أنّ إستفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط، أو أن التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم(7).

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مناسب للآيات السابقة ولسبب النّزول أكثر من التّفسيرين الأخيرين.

وإنسجاماً مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسّرين عن ابن عبّاس قوله:

أصاب الناس عطش في بعض أسفاره (ص) فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا، فنزلت الآية (لأنّ العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأنّ لها الأثر في نزول المطر، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واُخرى في السماء، وأنّ ظهورها يصاحبه نزول المطر، كما يعتقدون، ولهذا يقولون: مطرنا بنوء كذا، أي ببركة طلوع النجم الفلاني، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة النجوم)(8).

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّه جاء في بعض الرّوايات عن رسول الله(ص) أنّه قلّما كان يفسّر الآيات، وإجمالا كان يتصدّى للتفسير عندما تستلزم الضرورة، كما في هذا المورد حيث أخبر (ص) أنّ المقصود من (وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون) "وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون"(9).

تعقيب

أوّلا: خصوصية القرآن الكريم

يستنتج من الأوصاف الأربعة - التي ذكرت في الآيات أعلاه - حول القرآن، أنّ عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة، وعمق معناه من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّ القداسة القرآنية لا يستوعبها إلاّ الطاهرون والمؤمنون، ومن جهة رابعة: في الجانب التربوي المتميّز فيه، لأنّه نزل من ربّ العالمين، وكلّ واحدة من هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصّل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكلّ موضوع.

ثانياً: القرآن والطهارة

نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون) وقلنا: إنّ المسّ يفسّر بالمسّ الظاهري وبالمعنوي كذلك، ولا تضادّ بينهما، وهما مجموعان في المفهوم الكلّي للآية.

وفي القسم الأوّل نقلت روايات لأهل البيت (عليهم السلام) عن أبي الحسن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنّه قال: (المصحف لا تمسّه على غير طهر، ولا جنب، ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه، إنّ الله تعالى يقول: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)(10).

ونقل نفس المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقر (ع) مع إختلاف مختصر(11).

وجاء في مصادر أهل البيت (عليهم السلام) من طرق مختلفة أنّ الرّسول الأعظم (ص)قال: "لا يمسّ القرآن إلاّ الطاهر"(12).

وحول اللمس المعنوي نقل عن ابن عبّاس عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون" قال: "عند الله في صحف مطهّرة" (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)قال: "المقرّبون"(13).

وهذا المعنى يمكن الإستدلال عليه بواسطة العقل أيضاً، لأنّه رغم أنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية لعموم الناس، ولكنّنا نعلم أنّ الكثير ممّن سمعوا القرآن من فم النّبي الأكرم، ورأوا هذا الماء الزلال في عين الوحي الصافية، إلاّ أنّهم بسبب تلوّثهم بالعصبية والعناد والغرور لم يؤثّر فيهم أي تأثير ولم ينتفعوا به أقلّ إنتفاع، وهناك أشخاص اهتدوا به لمجرّد أنّهم سعوا ولو قليلا لتطهير أنفسهم وتهذيبها وجاءوا إلى القرآن بروح باحثة عن الحقّ والحقيقة، فعلى هذا كلّما إزدادت طهارة وتقوى الإنسان فإنّه مرشّح لإستيعاب المفاهيم القرآنية بصورة أعمق، ومن هنا فإنّ الآية تصدق في البعدين (المادّي والمعنوي) و (الجسمي والروحي).

وممّا لا شكّ فيه أنّ شخص الرّسول (ص) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) والملائكة المقرّبين هم أوضح مصداق للمقرّبين الذين أدركوا حقائق القرآن الكريم بصورة متميّزة عن الجميع.


1- الله والعلم الحديث، ص33.

2- الراغب في المفردات مادّة (كريم).

3- "لا يمسّه" جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.

4- البقرة، 2.

5- تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف، أو أنّه خبر بعد خبر.

6- طبقاً لهذا التّفسير فإنّ كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي: "وتجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون"، أو أنّ الرزق كناية عن (شكر الرزق).

7- طبقاً لهذين التّفسيرين فلا يوجد شيء مقدّر.

8- نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضاً في الدرّ المنثور، ج6، ص163; والقرطبي، ج9، ص6398; والمراغي، ج27، ص152; وروح المعاني، ج27، ص153 في نهاية الآيات مورد البحث بإختلاف يسير.

9- تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص163; ونور الثقلين، ج5، ص227.

10- وسائل الشيعة، ج1، ص269، الحديث (3) وطبقاً لهذا الحديث فإنّ النفي في الآية أعلاه كناية عن النهي.

11- وسائل الشيعة، ج1، ص270، الحديث 5.

12- نقل هذا الحديث في الدرّ المنثور عن عبدالله بن عمر ومعاذ بن جبل وابن حزم الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ج9; ص162.

13- الدرّ المنثور، ج6، ص162.