الآيات 68 - 74
﴿أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ (68) ءَأَنتُمْ أَنزَلُْتمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ (70)أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ (71) ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72)نَحْنُ جَعَلْنَـهَا تَذْكِرَةً وَمَتَـعاً لِّلْمُقْوِينَ (73)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(74)﴾
التّفسير
من الذي خلق الماء والنار؟
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة، التي تبيّن قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، بل في كلّ شيء.
(أفرأيتم الماء الذي تشربون).
(أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون).
"مزن": على وزن (حزن) كما يقول الراغب في المفردات تعني (الغيوم البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة)(1).
إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام إستفسارات عدّة كي تأخذ إقراراً منه، حيث يسأل الله سبحانه: هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه بإستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟
وهل تدبّرتم من الذي يأمر الشمس بالشروق على صفحات المحيط حيث تفصل جزئيات الماء الخالص الحلو والطاهر من بين المياه المالحة؟
وهل علمتم من الذي يحمل هذا البخار نحو السماء؟
ومن الذي يأمر البخار بالتجمّع وتشكيل غيوم الأمطار؟
ومن الذي يأمر الرياح بالتحرّك وحمل الغيوم إلى الأراضي القاحلة والميتة؟
ومن الذي يمنح للطبقات العليا في الجوّ هذه الخاصيّة من البرودة بحيث تمنح إستمرار صعود البخار نحو الأعلى، كي يتحوّل البخار إلى قطرات صغيرة وملائمة تسقط على الأرض بهدوء وتعاقب؟
وهل نعلم ماذا سيحدث لو إنقطعت الشمس عن الشروق لمدّة سنة واحدة؟
أو توقّفت الرياح عن التحرّك؟
أو رفضت الطبقات العليا حفظ البخار من الصعود إلى الأعلى؟
أو حبسته من النّزول إلى الأرض؟
لا شكّ أنّ الذي سيحدث يمثّل كارثة، حيث يموت الزرع والنخيل وتهلك مزارعكم وحدائقكم وحيواناتكم، بل ستهلكون أنتم من الظمأ أيضاً.
إنّ القوّة التي أعطت هذه القدرة ومنحت كلّ هذه النعم والبركات العظيمة، بما أودعته من قوانين ونظم في عالم الخلق، أتظنّون أنّها غير قادرة على إحياء الموتى؟
وهل أنّ إحياء الموتى غير هذا؟
أليس إحياء الأراضي الميتة نوعاً من أنواع إحياء الموتى؟
نعم، إنّه دليل على ذلك، وهو دليل على التوحيد وعظمة القدرة الإلهيّة، ودليل أيضاً على الحشر والمعاد.
وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية إستعراض لماء الشرب - فقط - وعدم التحدّث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهميّة البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه، بالإضافة إلى أنّه قد اُشير له في الآيات السابقة في الحديث الزرع، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.
والطريف هنا أنّ أهميّة الماء وتأثيره في حياة الإنسان تزداد مع مرور الزمن وتقدّم الصناعة والعلم والمعرفة الإنسانية، فالإنسان الصناعي يحتاج إلى الماء بصورة متزايدة، لذلك فإنّ كثيراً من المؤسسات الصناعية العظيمة لا تكون لها القدرة على الفاعلية إلاّ حينما تكون على ضفاف الأنهار العظيمة.
وأخيراً - ولإكمال البحث في الآية اللاحقة - يقول سبحانه: (لو نشاء جعلناه اُجاجاً فلولا تشكرون)(2).
نعم، لو أراد الله تعالى، للأملاح المذابة في مياه البحار أن تتبخّر مع ذرّات الماء، وتصعد إلى السماء معها وتشكّل غيوماً مالحة ومرّة، وتنزل قطرات المطر مالحة مرّة أيضاً كمياه البحر، فهل هنالك من قوّة تمنعه؟ ولكنّه بقدرته الكاملة لم يسمح للأملاح بذلك، ولا للمكروبات - أيضاً - أن تصعد إلى السماء مع بخار الماء، ولهذا فإنّ قطرات المطر عندما يكون الجوّ غير ملوّث تعتبر أنقى وأطهر وأعذب المياه.
"اُجاج": من مادّة (أجّ) على وزن (حجّ) وقد أخذت في الأصل من "أجيج النار" يعني إشتعالها وإحتراقها، ويقال "اُجاج" للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.
نختتم حديثنا هذا بحديث لرسول الله (ص) حيث ذكر الرواة أنّ النّبي كان إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً اُجاجاً بذنوبنا"(3).
وأخيراً نصل إلى سابع - وآخر - دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهميّة له في المجالات الصناعية المختلفة، حيث يقول سبحانه: (أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن).
"تورون": من مادّة (ورى) على وزن (نفى) بمعنى الستر، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة "ورى" و "ايراء"، وخروجها يكون عن.
وتوضيح ذلك: إنّ لإشعال النار وإيجاد الشرارة الاُولى، والتي تستحصل اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك، فإنّهم كانوا يحصلون عليها من الحديد والحجر المخصّص للقدح، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر، أمّا أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاصّ الذي ينمو في الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الاُولى أسفل والعفار فوقه فتتولّد الشرارة منها كما تتولّد من الحجر المستعمل للقدح.
وفسّر أغلب المفسّرين الآية بأنّها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولّد للشرر والنار، في الوقت الذي تكون فيه الأشجار الخضراء مشبّعة بالماء، فأين الماء؟ وأين النار؟
هذا الخالق العظيم الذي يتميّز بهذه القدرة، الذي وضع الماء والنار جنباً إلى جنب الواحد داخل الآخر، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة، ويحييهم في الحشر.
وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة "يس" أيضاً يقول تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون).(4)
ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإنّ تعبير القرآن يمكن أن يكون إشارة إلى دليل أظرف، وهو حشر وتحرّر الطاقات وإنطلاقها.
وبتعبير آخر: فإنّ الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي لديها قابلية الإشتعال - كالخشب والحطب - حيث تولّد عند إحتراقها كلّ هذه الحرارة والطاقة.
وتوضيح ذلك: أنّه ثبت من الناحية العلمية أنّ النار التي نشاهدها اليوم عند إحتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مرّ السنين وادّخرتها في داخلها، فنحن نتصوّر أنّ أشعّة الشمس طيلة إشراقها على الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أنّ حرارتها قد ادّخرت في الشجرة، وعندما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالإحتراق وتطلق الحرارة الكامنة فيها.
وبذلك يكون هنا أيضاً معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرّة اُخرى، ولسان حال الأشجار يقول: إنّ الخالق الذي هيّأ لنا الحشر قادر أن يهيّأ لكم حشراً يابني البشر.
(ولمزيد من الإطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصّل الذي بيّناه في الآية من سورة يس).
جملة (يورون) - بمعنى إشعال النار - بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد منه توليد النار، إلاّ أنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضاً كالحطب بإعتباره ناراً خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.
ولا تنافي بين المعنيين، حيث المعنى الأوّل يفهمه العامّة من الناس، والثاني أدقّ، يتوضّح مع مرور الزمن وتقدّم العلم والمعرفة.
وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّداً الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه: (نحن جعلناها تذكرةً ومتاعاً للمقوين).
إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة، ومن جهة اُخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنّم.
يقول الرّسول الأكرم (ص) "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم"(5).
أمّا تعبير (متاعاً للمقوين) فإنّه إشارة قصيرة ومعبّرة للفوائد الدنيوية لهذه النار، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين:
الأوّل: أنّ (مقوين) من مادّة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة المقفرة، ولهذا اُطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في الصحاري، ولأنّ أفراد البادية فقراء، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى "الفقير" أيضاً.
والتّفسير الثاني: أنّ (مقوين) من مادّة (قوّة) بمعنى أصحاب القوّة، وبناءً على هذا فإنّ المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادّين(6).
صحيح أنّ النار هي مورد إستفادة الجميع - ولكن المسافرين يستفيدون منها ويعتمدون عليها في الدفء والطهي وخاصّة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر من الآخرين.
وإستفادة "الأقوياء" من النار واضحة أيضاً، وذلك لإتّساع المجالات التي يستعملون النار فيها في اُمور حياتهم المختلفة، خصوصاً مع اتّساع دائرة البحث العلمي كما في عالمنا المعاصر، حيث إنّ الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرّك عجلة المصانع العظيمة، وإذا ما تعطّلت هذه الوسيلة المهمّة وإنطفأت شعلتها العظيمة - والتي جميعها من الشجر - بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة - فإنّها ستتعطّل الحياة المدنية، بل وستنطفيء حياة الإنسان أيضاً.
وبدون شكّ فإنّ النار من أهمّ إكتشافات البشر، في حين أنّ الله تعالى هو الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدّاً.
لقد قفز إكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي.
نعم هذه الحقائق جميعاً عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين).
وممّا يجدر ذكره أنّ الآية أعلاه إستعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار، والتي تذكّرنا بيوم القيامة، والتي هي محور الحديث في هذا البحث، ثمّ إنتقلت إلى ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها، لأنّ للناحية الاُولى أهميّة أكثر، بل تمثّل الأصل والأساس في البحث.
بعد ذكر النعم الثلاث (الحبوب الغذائية، والماء، والنار) والتي روعي ترتيب أهميّتها وفق تسلسل طبيعي - لأنّ إهتمام الإنسان يبدأ أوّلا بالحبوب الغذائية ثمّ يمزجها بالماء ومن ثمّ يطهوها ويهيّؤها للغذاء بواسطة النار - يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى بإعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم .. فيقول سبحانه في آخر آية مورد البحث: (فسبّح باسم ربّك العظيم)(7).
نعم، إنّ الله الذي خلق كلّ هذه النعم، والتي كلّ منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده، لائق للتسبيح والتنزيه من كلّ عيب ونقص.
إنّه ربّ، وكذلك فإنّه "عظيم" وقادر ومقتدر، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول الأعظم (ص) إلاّ أنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.
تعقيب
من المناسب هنا الإشارة إلى بعض الأحاديث الشريفة - حول الآيات أعلاه - عن الرّسول الأعظم (ص) وكذلك عن الإمام علي (ع).
أوّلا: نقرأ في تفسير روح المعاني حديثاً للإمام علي (ع) أنّه في إحدى الليالي كان الإمام يصلّي ويقرأ سورة الواقعة - ولمّا وصل إلى الآية: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) قال ثلاث مرّات: - بعد إنتهاء صلاته "بل أنت ياربّ" وعندما وصل إلى الآية: (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) قال ثلاث مرّات "بل أنت ياربّ" وعندما وصل إلى قوله تعالى: (أأنتم أنزلتموه من المُزن أم نحن المنزلون)قال ثلاث مرّات أيضاً "بل أنت ياربّ" ثمّ تلا قوله تعالى: (أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون) قل ثلاث مرّات "بل أنت ياربّ"(8).
وموضع العبرة في هذا الحديث هي ضرورة ملاحظة هذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعنوان إستفهام تقريري وأن يعطي الإنسان جواباً إيجابياً لله سبحانه الذي يتحدّث معه لتركيز هذه الحقائق في روحه ونفسه، وعليه أن يتعمّق في ذلك من خلال القراءة المتدبّرة الواعية، ولا يقتنع بالتلاوة الفارغة.
ثانياً: جاء في حديث رسول الله (ص) أنّه قال: "لا تمنعوا عباد الله فضل ماء ولا كلأ ولا نار فإنّ الله تعالى جعلها متاعاً للمقوين، وقوّة للمستضعفين"(9).
ثالثاً: ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسول (ص) قال حينما نزلت الآية الكريمة: (فسبّح باسم ربّك العظيم): "اجعلوها في ركوعكم"(10)، أي قولوا في ركوعكم: سبحان ربّي العظيم وبحمده.
1- لسان العرب مادّة مزن.
2- في هذه الجملة حذفت اللام وفي التقدير هكذا "لو نشاء لجعلناه".
3- تفسير المراغي، ج27، ص148; وتفسير روح المعاني، ج27، ص129.
4- سورة يس، الآية 80.
5- تفسير القرطبي، ج9، ص6392; وتفسير روح المعاني، ج27، ص131.
6- من الجدير بالملاحظة أنّ كلمة (متاع) تطلق على كلّ وسيلة يستفيد منها الإنسان في حياته.
7- الباء في (باسم ربّك) يمكن أن تكون للتعدية (حيث إنّ الفعل المتعدّي سبّح يؤخذ بمنزلة اللازم) وإحتمل البعض أيضاً أنّ الباء هنا جاءت للإستعانة أو زائدة أو ملابسة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.
8- تفسير روح المعاني، ج27، ص130.
9- الدرّ المنثور، ج6، ص161.
10- ذكر هذا الحديث المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بكونه حديثاً صحيحاً، ج9، ص224، وجاء أيضاً في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مطابقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص225، وكذلك في تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص168.