الآيات 63 - 67

﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّرِعُونَ (64)لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَـهُ حُطَـماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)﴾

التّفسير

هل أنتم الزارعون أم الله؟

إستعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلّة من الأدلّة السبعة التي جاء ذكرها في هذه السورة حول المعاد، والآيات - مورد البحث واللاحقة لها - تستعرض الأدلّة الاُخرى المتبقّية والتي كلّ منها مصداق لقدرة الله اللا متناهية.

فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية، والثاني يرتبط بخلق الماء، والثالث يتعلّق بالنار.

وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسيّة في الحياة الإنسانية، فالحبوب النباتية أهمّ مادّة غذائية للإنسان، والماء أهمّ عنصر للحياة، والنار أهمّ وسيلة لإصلاح المواد الغذائية وسائر اُمور الحياة الاُخرى.

يقول سبحانه في البداية: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون).

الملفت للنظر هنا أنّ الآية إستعملت تعبير (تحرثون) من مادّة (حرث) على وزن (درس) وهو يعني الزراعة ونشر الحبوب وتهيئتها للإنبات، وفي الآية الثانية كان التعبير بـ (تزرعونه) من مادّة "زراعة" بمعنى النمو والنضج.

ومن البديهي أنّ عمل الإنسان هو الحرث فقط، أمّا النمو فهو من عمل الله سبحانه فقط، ولذا نقل في حديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: "لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت، فإنّ الزارع هو الله"(1).

شرح هذا الدليل هو أنّ عمل الإنسان في الزرع كعمله في الإنجاب حيث ينثر البذرة ويتركها، والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة، فعندما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء، فإنّها تستفيد إبتداءاً من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعماً وتولّد جذراً، ثمّ تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض حيث تعمل أجهزة عظيمة وتحدث تغييرات عميقة في داخل النبات، تتمخّض عن أغصان وسيقان وأوراق وثمار .. وأحياناً تنتج البذرة الواحدة عدّة آلاف من البذور(2).

يقول العلماء: إنّ التركيبات الموجودة في بناء نبات واحد أعجب وأعقد بمراتب من التشكيلات الموجودة في مدينة صناعية عظيمة مع معاملها المتعدّدة.

هل أنّ القوّة التي لها مثل هذه القدرة تعجز عن إحياء الموتى مرّة اُخرى؟

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول: (لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون).

نعم، يستطيع الباريء أن يرسل رياحاً سامّة تقتل البذور قبل الإنبات وتحطّمها، أو يسلّط عليها آفة تتلفها بعد الإنبات كالجراد، أو تنزل عليها صاعقة كبيرة بحيث لا تبقي ولا تذر إلاّ شيئاً من التبن اليابس، وعند ذلك تضطربون وتندمون عند مشاهدتكم لمنظرها.

هل كان بالإمكان حدوث مثل هذه الاُمور إذا كنتم أنتم الزارعون الحقيقيون؟ إذاً فاعلموا أنّ كلّ هذه البركات من مصدر آخر.

"حطام": من مادّة (حطم) على وزن (حتم) تعني في الأصل كسر الشيء، وغالباً ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضاً أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها(3).

"تفكّهون": من مادّة (فاكهة) بمعناها المتعارف، كما تطلق فكاهة على المزاح وذكر الطرائف التي هي فاكهة جلسات الاُنس، ويأتي هذا المصطلح أحياناً للتعجّب والحيرة، والآية مورد البحث من هذا القبيل.

في بعض الأحيان يضحك الإنسان في الحالة العصبية وتسمّى هذه الضحكة بـ (ضحكة الغضب) كما في المزاح الذي يكون عند الظروف الصعبة والمصائب الثقيلة، وبناءً على هذا فالمقصود: بالفكاهة - أحياناً - هو المزاح المقترن بالألم.

نعم تتعجّبون وتغمركم الحيرة وتقولون (إنّا لمغرمون(2) (3) بل نحن محرمون).

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدّي يؤكّد لنا أنّ جميع اُمور الخلق من الله سبحانه، وكذلك فإنّه هو الذي ينبت من بذرة لا قيمة لها نباتات طريّة وأحياناً مئات أو آلاف البذور منها، تلك النباتات التي يتغذّى عليها الإنسان بشكل أساسي ويستفيد من أغصانها وأوراقها وأحياناً جذورها وبقيّة أجزائها غذاء للحيوان ودواء للأمراض والأسقام.


1- تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

2- لجملة (إنّا لمغرمون) محذوف، تقديره (وتقولون إنّا لمغرمون).

3- "مغرمون": من مادّة (غرامة) بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.