الآيات 57 - 62

﴿نَحْنُ خَلَقْنَـكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58)ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَـلِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ(61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاُْولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ (62)﴾

التّفسير

سبعة أدلّة على المعاد:

بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تكذيب الضالّين ليوم المعاد، فإنّ الآيات اللاحقة إستعرضت سبعة أدلّة على هذه المسألة المهمّة، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهيّة التي وردت في الآيات السابقة حول "المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال"، وأساساً فانّ أبحاث هذه السورة تتركّز على بحث المعاد بشكل عامّ.

يقول سبحانه في المرحلة الاُولى: (نحن خلقناكم فلولا تصدّقون) أي لِمَ لا تصدّقون بالمعاد(1)؟!

لماذا تتعجّبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم تراباً؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحداً؟

هذه الإستدلالات في الحقيقة شبيهة بما جاء في قوله تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم).(2)

وفي الآية اللاحقة يشير البارىء إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول: (أفرأيتم ما تمنون(3) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون).

من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كلّ يوم بخلق جديد وشكل جديد، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول واُولي الألباب من المفكّرين، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرّر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟

إنّ المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في قوله تعالى: (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثمّ نخرجكم طفلا).(3)

وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الإعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها، سوف يتّضح لنا الحال أكثر، حيث يقولون: إنّ الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدّاً وإنّ منيّ الرجل يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كلّ إنزال تقدّر بين (2 - 5) مليون حيمن وهذا يمثّل مقدار مجموع سكّان عدّة (بلدان في العالم)(4) هذا الحيوان المنوي يتّحد مع بويضة المرأة (أوول)، فتتكوّن البيضة المخصّبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر بصورة عجيبة، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان، ومع أنّ الخلايا متشابهة في الظاهر، إلاّ أنّها تتوزّع بسرعة إلى مجاميع عديدة، فقسم منها يختص بالقلب، والآخر بالأطراف، والثالث بالاذن والحنجرة، وكلّ مجموعة مستقرّة في مكانها المحدّد له، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب، ولا خلايا القلب تتحوّل إلى خلايا العين، ولا العكس.

والخلاصة أنّ "النطفة المخصّبة" في المرحلة الجنينيّة تمرّ بعوالم عديدة مختلفة حتّى تصبح جنيناً، وكلّ هذا في ظلّ خالقية إلهيّة مستمرّة، في حين أنّ دور الإنسان في هذه العملية بسيط جدّاً، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم، والذي ينجز بلحظة واحدة.

أليست هذه المسألة دليلا حيّاً على مسألة المعاد؟

أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلّل على قدرة إحياء الموتى أيضاً(5).

ثمّ يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه: (نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين).

نعم، إنّنا لن نغلب أبداً، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي، بل أنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم.

وأخيراً نعيدكم خلقاً جديداً في عالم لا تعلمون عنه شيئاً (على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون).

وفي تفسير هاتين الآيتين هناك وجهة نظر اُخرى وهي: أنّ الآية الثانية لم تأت لبيان هدف الآية الاُولى ولكن تكملة لها، حيث يريد سبحانه أن يبيّن المعنى التالي وهو: أنّنا لسنا بعاجزين ومغلوبين على أن نذهب بقسم ونأتي بآخرين مكانهم(6).

ويوجد تفسيران لجملة (على أن نبدّل أمثالكم).

الأوّل: هو نفس التّفسير المذكور أعلاه، والذي هو المشهور بين المفسّرين، وطبقاً لهذا الرأي تكون عملية تبديل الأقوام في هذه الدنيا.

والثاني هو: أنّ المقصود من (أمثال) هم نفس البشر الذين يبعثون في يوم القيامة، والتعبير بـ (مثل) لأنّ الإنسان لا يبعث مرّة اُخرى بكلّ خصوصياته التي كان عليها، إذ أنّه سيكون في وقت جديد وكيفيات جديدة من حيث الروح والجسم.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر.

وعلى كلّ حال، فإنّ الهدف هو الإستدلال على المعاد من خلال مسألة الموت، ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية: إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون بإستمرار، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالداً وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبّراً وليست منزلا وأنّها جسر وليست مقصداً، لأنّها لو كانت مستقرّاً ومقصداً للزم أن تدوم الحياة فيها.

جملة (وننشئكم فيما لا تعلمون) ظاهراً إشارة إلى خلق الإنسان يوم القيامة، والتي هي الهدف لحياة وفناء هذه الدنيا، ومن البديهي لأي شخص لم يرَ الدار الآخرة أنّه لن يستطيع إدراكها ومعرفة قوانينها والأنظمة المسيطرة عليها من خلال الألفاظ والصور التي تنقل لنا عنها، نعم إنّنا نستطيع أن نرى شبحها وظلالها فقط من التصوير اللفظي لها، ولذا فإنّ الآية أعلاه تعكس هذه الحقيقة، حيث تذكر أنّ الله سيخلقنا في عالم جديد وبأشكال وظروف جديدة لا ندرك أسرارها(7).

وفي آخر آية - مورد البحث - يتحدّث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول: (ولقد علمتم النشأة الاُولى أفلا تذكّرون).

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين:

الاُولى: في المثال التالي: إذا كنا نسير في صحراء وشاهدنا قصراً مهيباً عظيماً مثيراً للإعجاب في محتوياته ومواد بنائه وهندسته، وقيل لنا: إنّ الهدف من هذا القصر هو إستعماله كمحطّة للراحة والهدوء لعدّة ساعات فقط لقافلة صغيرة .. فإنّنا سنحكم في أنفسنا بصورة قاطعة على عدم الحكمة في هذا العمل، إذ من المناسب لمثل الهدف المتقدّم ذكره أن تُعد خيمة صغيرة فقط.

وعلى هذا فإنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها من أجرام سماوية وشمس وقمر وأنواع المخلوقات الأرضية الاُخرى، هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيّام؟ كلاّ ليس كذلك، وإلاّ فانّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف - مثل الإنسان - ليعرف الله سبحانه من خلالها، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة، فالهدف إذن هو الدار الآخرة، وهذا دليل آخر على المعاد.

وهذا البيان هو ما نجده في الآية الشريفة: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا).(8)

الثانية: هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرّر أمامنا في كلّ سنة وفي كلّ زاوية وكلّ مكان، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة قال تعالى: (إنّ الذي أحياها لمحيّ الموتى)،(9) وقد اُشير إلى هذا المعنى كذلك في الآية 6 من سورة الحجّ.

ملاحظة

حجيّة القياس:

إنّ هذه المسألة تطرح عادةً في اُصول الفقه، وهي أنّنا لا نستطيع إثبات الحكم الشرعي عن طريق القياس كقولنا مثلا: (إنّ المرأة الحائض التي يجب أن تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها كذلك) - أي يجب أن تكون إستنتاجاتنا من الكلّي إلى الجزئي، وليس العكس - وبالرغم من أنّ علماء أهل السنّة قد قبلوا القياس في الغالب كأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، فإنّ قسماً منهم يوافقوننا في مسألة (نفي حجيّة القياس).

والظريف هنا أنّ بعض مؤيّدي القياس أرادوا أن يستدلّوا بمقصودهم بالآية التالية: (ولقد علمتم النشأة الاُولى) أي قيسوا النشأة الاُخرى (القيامة) على النشأة الاُولى (الدنيا).

إلاّ أنّ هذا الإستدلال عجيب، لأنّه أوّلا: إنّ المذكور في الآية هو إستدلال عقلي وقياس منطقي، ذلك أنّ منكري المعاد كانوا يقولون: كيف تكون لله القدرة على إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الكريم بالمفهوم التالي: إنّ القوّة التي كانت لها القدرة على خلقكم في البداية هي نفسها ستكون لها القدرة لخلقكم مرّة ثانية، في الوقت الذي لا يكون القياس الظنّي بالأحكام الشرعية بهذه الصورة أبداً، لأنّنا لا نحيط بمصالح ومفاسد كلّ الأحكام الشرعية.

وثانياً: إنّ من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية، فمثلا يقول تعالى: (ولا تقل لهما اُف ولا تنهرهما) ونفهم بطريق أولى ألاّ نؤذيهما من الناحية البدنية.

والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظنّي مورد الخلاف والنزاع، لأنّه لم يكن شيء من المخلوقات في البداية، والله عزّوجلّ خلق الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب، ولذا فإنّ إعادة الإنسان إلى الوجود مرّة اُخرى أيسر من خلقه إبتداءاً، وتعكس الآية الكريمة التالية هذا المفهوم حيث يقول تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه).(10)

وننهي حديثنا هذا بالحديث التالي: "عجباً كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الاُخرى وهو يرى النشأة الاُولى، وعجباً للمصدّق بالنشأة الاُخرى وهو يسعى لدار الغرور"(11).


1- الحجّ، 5.

2- كتاب أوّل جامعة، ج1 (بحث معرفة الجنين)، ص241.

3- في هذا الموضوع ذكرنا توضيحات اُخرى في نهاية الآية (5) من سورة الحجّ.

4- طبقاً للتفسير الأوّل فإنّ الجار والمجرور في (على أن نبدّل) متعلّق بـ (قدّرنا) والذي جاء في الآية السابقة. طبقاً للتفسير الثاني فإنّها متعلّقة بـ (مسبوقين) (يرجى الإنتباه).

5- إعتبر البعض أنّ الآية هي إشارة إلى مسخ الأقوام السابقين في هذا العالم، حيث إنّ الله سبحانه قد مسخهم بأشكال لا يعلمونها، إلاّ أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية.

6- سورة ص، 37.

7- فصّلت، 39.

8- الروم، 27.

9- ذكر هذا الحديث في تفسير روح البيان وروح المعاني والقرطبي والمراغي بإختلاف مختصر بعنوان خبر، وبدون تصريح باسم الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ ظاهر تعبيراتهم أنّ الحديث للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي كتاب الكافي أيضاً نقل القسم الأوّل من هذا الحديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام).

10- القسم الأوّل من الحديث جاء في تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل القسم الثاني في روح البيان كإضافة عليه.

11- بالرغم من أنّ الحبّة الواحدة من الحنطة لا تنبت سوى عدّة مئات من الحبوب، إلاّ أنّه كما قلنا في ج2 من هذا التّفسير: أنّه قد وجد في بعض مزارع القمح في إحدى المحافظات الجنوبية لإيران أنّ سنبلة واحدة تحوي على أربعة آلاف حبّة وذلك طبقاً لما أعلنته منشورات صحفية.