الآيات 41 - 50
﴿وَأَصْحَـبُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَـبُ الشِّمَالِ (41) فِى سَمُوم وَحَمِيم (42)وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم (43) لاَّ بَارِد وَلاَ كَرِيم (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46)وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُراباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)أَوَ ءَابَاؤُنَا الاَْوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الاَْوَّلِينَ وَالاَْخِرِينَ (49)لََمجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَـتِ يَوْم مَّعْلُوم (50)﴾
التّفسير
العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال:
بعد الإستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقرّبين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه، يتطرّق الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أصحاب الشمال) والعذاب المؤلم والعاقبة السيّئة التي حلّت بهم، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول الباريء: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال).
أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب، وممّن تكون النار مصيراً لهم، ويستعمل هذا التعبير عادةً لبيان (حسن) أو (سوء) نهاية الإنسان كما في قولنا: السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!.
أو المصيبة داهمتنا يا لها من مصيبة.
وكذلك في قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال).
ثمّ يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها، الهواء الحارق القاتل من جهة (سموم) والماء المغلي المهلك من جهة اُخرى (وحميم)، وظلّ الدخان الخانق الحارّ من جهة ثالثة (وظلّ من يحموم) هذه الألوان من العذاب تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة ... إنّها آلام وعذاب لا يطاق، ولو لم يكن غيره من جزاء لكفاهم.
"سموم": من مادّة (سمّ) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد فتهلكهم، (ويقال للسمّ سمّاً لأنّه ينفذ في جميع خلايا الجسم).
و "حميم": بمعنى الشيء الحارّ، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي اُشير له في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم).(1)
"يحموم": من نفس المادّة أيضاً، وهنا بمناسبة الظلّ فسّرت الكلمة بمعنى الظلّ الغليظ الأسود والحارّ.
ثمّ يضيف الباريء مؤكّداً فيقول: (لا بارد ولا كريم).
المظلّة عادةً تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اُخرى، والظلّ المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.
والتعبير بـ (كريم) من مادّة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة، ولذلك فإنّ المتعارف بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئاً أو شخصاً بانّه غير مفيد يقولون (لا كرامة فيه).
ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلاّ الشرّ والضرر (لا كرامة).
وبالرغم من أنّ أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب، إلاّ أنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقيّة الأهوال.
وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم، وذلك بثلاث جمل، يقول في البداية: (إنّهم كانوا قبل ذلك مترفين).
"مترف": كما ورد في لسان العرب من مادّة ترف - على وزن (سبب) - بمعنى التنعّم، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغروراً سكران، وجرّته إلى الطغيان(2).
صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعاً من زمرة المترفين، إلاّ أنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.
والملاحظ في عصرنا الحاضر أنّ فساد المجتمعات وعوامل الإنحراف ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في العالم أجمع بيد "الزمرة" المترفة المغرورة، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصّهم وحدّد موقفه منهم إبتداءً.
وهنالك رأي ثان وهو: إنّ نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر بالأموال فقط، بل تشمل الصحّة والشباب والعمر .. فإذا كانت هذه النعم أو بعضها مبعثاً للغرور والغفلة، فإنّها ستكون مصدراً أساسياً للذنوب، وهذا المفهوم يسري على أصحاب الشمال.
ثمّ يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدراً وسبباً لعذاب أصحاب الشمال، فيقول سبحانه: (وكانوا يصرّون على الحنث العظيم).
"الحنث" في الأصل يعني كلّ نوع من الذنوب، وقد إستعمل هذا المصطلح في كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم، لكونه مصداقاً واضحاً للذنب، وبناءً على هذا فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في إرتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها، لأنّ الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضاً، إلاّ أنّهم لا يصرّون عليه أبداً، ويستغفرون ربّهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكّره.
وفسّر البعض "الحنث العظيم" بمعنى الشرك، لأنّه لا ذنب أعظم من الشرك.
قال تعالى: (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(3).
وفسّر (الحنث) بالكذب، لأنّه أعظم الذنوب، ومفتاح المعاصي، خصوصاً حينما يكون الكذب توأماً لتكذيب للأنبياء (عليهم السلام) والمعاد.
والظاهر أنّ هذه جميعاً تعتبر مصاديق للحنث العظيم.
وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنّهم قالوا: (وكانوا يقولون أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون).
وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب، هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم.
وتعبير (كانوا يقولون)يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.
وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما:
الأوّل: أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و (أصحاب اليمين) لم يعط توضيحاً عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء، إلاّ ضمن إشارة عابرة.
أمّا عندما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت أفعالهم بصورة كافية، وذلك ليكون إتماماً للحجّة عليهم من جهة، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان إنسجاماً مع مبادىء العدالة تماماً من جهة اُخرى.
والمسألة الاُخرى: أنّ الذنوب الثلاثة التي اُشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اُصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.
ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الاُولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نبي إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على اُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون).(4)
والتعبير بـ (تراباً وعظاماً) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب، وعظامنا إلى رميم، ومع ذلك فكيف نكون خلقاً جديد؟
ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى: (تراباً وعظاماً).
والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها(5).
ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح تراباً ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اُخرى، وأساساً فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية، ولن يكون عليه ذلك صعباً وعسيراً ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.
إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجّب: (أو آباؤنا الأوّلون)(6) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كلّ ذرّة من تراب أجسادهم في جهة، أو أصبحت جزءاً من بدن كائن آخر؟
ولكن، كما قيل مفصّلا في نهاية سورة ياسين، فإنّ هذه التساؤلات وغيرها ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القويّة المتوفّرة حول مسألة المعاد.
ثمّ إنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرم (ص) أن يجيبهم: (قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)(7).
"ميقات" من مادّة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد.
والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرّر للقيامة، حيث يجتمع كلّ البشر للحساب، ويأتي أحياناً كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معيّن، مثل مواقيت الحجّ، التي هي أسماء أماكن خاصّة للشروع بالإحرام.
ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر، مثل: (إنّ، اللام، "مجموعون" التي جاءت بصيغة إسم مفعول، ووصف "يوم" بأنّه معلوم) ممّا يكون واضحاً ومؤكّداً أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية اُخرى أيضاً(8).
ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ الذين كانوا يتصوّرون أنّ القيامة تقع في أزمنة متعدّدة حيث إنّ لكلّ اُمّة قيامة، هم غرباء عن آيات الله تماماً.
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط، وإلاّ فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقرّبون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.
1- يجب الإنتباه هنا إلى تكرار حرف الإستفهام والتعبير بـ (أنّ) كلّها للتأكيد.
2- الهمزة في (أو آبائنا الأوّلون) إستفهامية، والواو واو عطف وهنا قدّمت الهمزة الإستفهامية عليها.
3- إستعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أنّ القيامة تكون في نهاية هذا العالم، ويمكن أن تكون هنا بمعنى بـ "لام" كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).
4- هور، الآية 103; مريم، الآية 95.
5- (من) في (من شجر) تبعيضية، و (من) في (زقّوم) بيانية.
6- مجمع البحرين ومفردات الراغب، ولسان العرب، وتفسير روح المعاني.
7- الجدير بالذكر أنّ في الآية السابقة كان الضمير مؤنثاً (منها) يعود على (شجر من زقّوم) وفي هذه الآية كان الضمير مذكراً (عليه) يعود على الشجر، وذلك لأنّ الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث، وكذلك ثمر، (مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث).
8- (لولا) في الإصطلاح تستعمل للحضّ والتحريك لإنجاز عمل ما، وكما يقول البعض فإنّها في الأصل مركّبة من (لِمَ) و (لا) والتي تعطي معنى السؤال والنفي ثمّ تبدّلت الميم إلى واو، ويستعمل هذا المصطلح في مكان يتسامح فيه فرد أو أفراد في إنجاز عمل ما، ويقال لهم: لماذا لا تعملون هكذا وهكذا؟.