الآيات 27 - 40

﴿وَأَصْحَـبُ الَْيمِينِ مَا أَصْحَـبُ الَْيمِينِ (27) فِى سِدْر مَّخْضُود (28)وَطَلْح مَّنضُود (29) وَظِلٍّ مَّمْدُود (30) وَمَآء مَّسْكُوب (31)وَفَـكِهَة كَثِيرَة (32) لاَّ مَقْطُوعَة وَلاَ مَمْنُوعَة (33) وَفُرُش مَّرْفُوعَة(34) إِنَّآ أَنشَأْنَـهُنَّ إِنشَآءً (35) فَجَعَلْنَـهُنَّ أَبْكَاراً (36)عُرُباً أَتْرَاباً (37) لاَِّصْحَـبِ الَْيمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الاَْوَّلِينَ (39)وَثُلَّةٌ مِّنَ الاَْخِرِينَ (40)﴾

التّفسير

أصحاب اليمين وهباتهم:

بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الإمتحان الربّاني.

ويشير سبحانه إلى نعم ستّ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نِعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلا من حيث مقامهم العالي، حيث يقول عزّوجلّ: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين)(1).

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول: (في سدر مخضود)(2).

وفي الحقيقة أنّ هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنّة في دائرة ألفاظنا الدنيوية، لأنّ (السدر) كما يقول أئمّة اللغة: شجر قوي معمّر يصل طوله إلى أربعين متراً أحياناً وعمره يقرب من ألفي سنة، ولها ظلّ ظليل ولطيف، والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنّه ذو شوك إلاّ أنّ وصفه بـ (مخضود) من مادّة (خضد) - على وزن (مجد) - بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنّة.

وجاء في حديث: كان أصحاب رسول الله (ص) يقولون: إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوماً، فقال: يارسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها؟

فقال رسول الله (ص): "وما هي" قال: السدر، فإنّ لها شوكاً.

قال رسول الله (ص): "أليس يقول الله: في سدر مخضود، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة، إنّها تنبت ثمراً يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر"(3).

ثمّ يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه: (وطلح منضود).

"الطلح": شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة، وذكر البعض أنّها شجرة الموز التي تتميّز بأوراق عريضة جدّاً وخضراء وجميلة، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و "منضود": من مادّة (نضد) بمعنى متراكم.

وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما، حتّى أنّ البعض قال: إنّ هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حدّ أنّها تغطّي سيقان وأوراق الأشجار.

وقال بعض المفسّرين: بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر صغيرة جدّاً، وأوراق شجر الموز كبيرة جدّاً، فإنّ ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار الجنّة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين(4).

ثمّ يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله: (وظلّ ممدود).

فسّر البعض هذا (الظلّ الواسع) بحالة شبيهة للظلّ الذي يكون بين الطلوعين من حيث إنتشاره في كلّ مكان، وقد نقل حديث للرسول (ص) بهذا المعنى في روضة الكافي(5).

والمقصود هنا أن لا حَرَّ في الجنّة، وأنّ أهلها في ظلال لطيفة واسعة تلطّف الروح.

وينتقل الحديث إلى مياه الجنّة حيث يقول سبحانه: (وماء مسكوب).

"مسكوب" من مادّة (سكب) على وزن "حرب" وتعني في الأصل الصبّ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلاّل فإنّه بذلك يصوّر لنا مشهداً رائعاً حيث إنّ خرير المياه ينعش الروح.

ويبهر العيون، وهذه هي إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنّة، ومن الطبيعي أنّ هذه الجنّة المليئة بالأشجار العظيمة، والمياه الجارية، لابدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة).

نعم، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك، أو العلو مثل النخيل، أو مانع ذاتي في نفس الإنسان، أو أنّ المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكّلين بخدمة أهل الجنّة يبخلون عليهم .. كلاّ، لا يوجد شيء من هذا القبيل، فالمتقضي موجود بشكل كامل، والمانع بكلّ أشكاله مفقود.

ثمّ يشير سبحانه إلى نعمة اُخرى حيث يقول: (وفرش مرفوعة) أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

"فرش": جمع فراش وتعني في الأصل كلّ فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في الحديث عن الرّسول (ص) أنّه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفسّر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية، وإعتبرها إشارة إلى الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنّة.

ولكن إذا فسّرت بهذه الصورة، فسيقطع إرتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حوريات وزوجات الجنّة.

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنّة بقوله تعالى: (إنّا أنشأناهنّ إنشاءً).

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقاً جديداً في يوم القيامة، ويدخلن الجنّة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن، وبشكل يتناسب مع كمال الجنّة وخلوّها من كلّ نقص وعيب.

وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإنّ الله تعالى خلقهنّ بصورة لا يعتريهنّ فيها غبار العجز والضعف، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى المعنيين أيضاً.

ثمّ يضيف تعالى: (فجعلناهنّ أبكاراً).

وإحتمال أن يكون الوصف مستمرّاً، كما صرّح كثير من المفسّرين بذلك، واُشير له في الرّوايات الإسلامية أيضاً، حيث الزواج لا يغيّر وضعهنّ ويبقين أبكاراً(6).

ويضيف في وصفهنّ بوصف آخر فيقول تعالى: (عُرُباً).

(عُرُباً) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها، وعمّا تكنّه من المحبّة لزوجها، (إعراب): على وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار، ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن (أتراباً) أي أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن، ومتماثلات في العمر مع أزواجهنّ.

(أتراب) جمع (ترب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه، وقال البعض: إنّ هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر، لأنّها تتشابه الواحدة مع الاُخرى.

إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهنّ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهنّ كاملة، وبذلك تصبح الحياة أكثر سعادة وإنسجاماً، بالرغم من أنّ السعادة تحصل مع إختلاف العمر أحياناً، إلاّ أنّ الغالب ليس كذلك.

كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.

ثمّ يضيف تعالى: (لأصحاب اليمين).

وهذا تأكيد جديد على إختصاص هذه الصفات والنعم الإلهيّة بهم.

ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة مكمّلة لجملة (إنّا أنشأناهنّ إنشاءً)(7).

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه: (ثلّة من الأوّلين وثلّة من الآخرين).

"ثلّة": في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف، ثمّ اُطلقت على كلّ مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الاُمم السابقة، ومجموعة عظيمة من الاُمّة الإسلامية، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين.

بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الاُمّة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الاُمم السابقة، وذلك لكثرة تلك الاُمم وكثرة أنبيائها.

وقال البعض: إنّ هاتين المجموعتين كلاهما من الاُمّة الإسلامية، قسم من أوّلهم وقسم من آخرهم، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصحّ.


1- روضة الكافي، مطابق نقل نور الثقلين، ج5، ص216.

2- روح المعاني، ج27، ص123 وبالضمن يجدر الإنتباه إلى أنّ هذه الحالة، مع فاء التفريع عطفت على الآية السابقة.

3- في الصورة الاُولى عبارة (أصحاب اليمين) خبر لمبتدأ محذوف، وفي التقدير تصبح هكذا: (هذه كلّها لأصحاب اليمين) وفي الصورة الثانية جار ومجرور متعلّق بأنشأناهنّ، والتّفسير الأوّل أصحّ.

4- الحجّ، 19.

5- لسان العرب، ج9، ص17.

6- النساء، آية 48.

7- الزخرف، 23.