الآيات 1 - 14
﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ(3) إِذَا رُجَّتِ الاَْرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5)فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَجاً ثَلَـثَةً (7) فَأَصْحَـبُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـبُ الْمَيْمَنَةِ(8) وَأَصْحَـبُ الْمَشْئَمَةِ مَآ أَصْحَـبُ الْمَشْئَمَةِ(9) وَالسَّـبِقُونَ السَّـبِقُونَ (10) أُوْلَـئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ(12) ثُلَّةٌ مِّنَ الاَْوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الاَْخِرِينَ (14)﴾
التّفسير
الواقعة العظيمة:
إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالباً في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسيّة عظيمة قاصمة ومدمّرة، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي تتحدّث عن القيامة.
وفي سورة الواقعة حيث يدور البحث حول محور المعاد، نجد هذا واضحاً في الآيات الاُولى منها، حيث يبدأ سبحانه بقوله: (إذا وقعت الواقعة)(1).
(ليس لوقعتها كاذبة) وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كلّ ذرّات الوجود.
"الواقعة" تشير إشارة مختصرة إلى مسألة الحشر، ولأنّ وقوعها حتمي فقد عبّر عنها بـ (الواقعة) واعتبر البعض أنّها إحدى أسماء القيامة.
كلمة (كاذبة) هنا أخذت بمعناها المصدري، وهي إشارة إلى أنّ وقوع القيامة ظاهر وواضح إلى حدّ لا يوجد أي مجال لتكذيبه أو بحثه والنقاش فيه.
كما أنّ البعض فسّرها بمعناها الظاهري الذي هو اسم الفاعل، حيث قالوا بعدم وجود من يكذّب هذا الأمر(2).
وعلى كلّ حال فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة (خافضة رافعة)(3).
أجل، انّها تذلّ المستكبرين المتطاولين، وتعزّ المحرومين المؤمنين وترفع المستضعفين الصادقين بعض يسقط إلى قاع جهنّم، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنّة.
وهذه هي خاصية المبادىء الإلهيّة العظيمة.
ولذلك نقرأ في رواية الإمام علي بن الحسين (ع) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "خافضة خفضت والله أعداء الله في النار، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى الجنّة"(4).
ثمّ يستعرض القرآن الكريم وصفاً أوسع في هذا الجانب حيث يقول: (إذا رجّت الأرض رجّاً).
يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى، قال تعالى: (وبسّت الجبال بسّاً فكانت هباءً منبثّاً).
(رُجّت) من مادّة (رجّ) على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشيء وتقال رجرجة للإضطراب.
"بُسّت" من مادّة (بسّ) على وزن (حجّ).
والأصل بمعنى تليّين الطحين وتعجنه بواسطة الماء.
"هباءً" بمعنى غبار، و "منبث" بمعنى منتشر.
قال البعض: إنّ "هباءً" هو ذرّات الغبار الصغيرة المعلّقة بالفضاء ولا ترى في الحالة الإعتيادية، إلاّ إذا دخل نور الشمس من نافذة إلى مكان مظلم.
والآن يجب التفكير بهذه الزلزلة والإنفجار، كم هو عظيم بحيث تتلاشى الجبال مع ما لها من القوّة والصلابة بحيث تتحوّل إلى غبار منتشر، والأعظم هو شدّة الصوت الذي ينتج من هذا الإنفجار الرهيب.
وعلى كلّ حال فقد نلاحظ في الآيات القرآنية تعبيرات مختلفة حول وضع الجبال قبل يوم القيامة، وتكشف لنا المراحل المتعدّدة للإنفجار العظيم الذي يطرأ على الجبال، حيث يقول عزّوجلّ في هذا الصدد:
(وتسير الجبال سيراً) الطور / 10.
(وإذا الجبال نسفت) المرسلات / 10.
(فدكّتا دكّة واحدة) الحاقّة / 14.
(وكانت الجبال كثيباً مهيلا) المزمل / 14 أي كالرمل المتراكم.
(فكانت هباءً منثوراً) الواقعة / 6 الآية محلّ البحث.
وأخيراً (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) القارعة / 2 أي كالصوف المنفوش حيث لا يرى منها إلاّ لونها.
ومن الواضح أن لا أحد يعلم إلاّ الله بحقيقة حصول هذه التغيّرات التي لا تحملها الألفاظ، ولا تجسّدها العبارات، اللهمّ إلاّ إشارات معبّرة تحكي عظمة وهول هذا الإنفجار العظيم.
وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقول سبحانه: (وكنتم أزواجاً ثلاثة).
لفظ (الزوج) لا يقال دائماً لجنس المؤنث والمذكّر، بل تطلق هذه اللفظة على الاُمور المتقارنة مع بعض، ولكون أصناف الناس في القيامة والحشر والنشر تكون متقارنة مع بعضها، لذا يطلق عليها لفظ أزواج.
وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله: (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة)(5).
المقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة، كما ذكر هذا مراراً في الآيات القرآنية.
أو أنّ كلمة (ميمنة) من مادّة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة، وعلى هذا التّفسير فإنّ القسم الأوّل هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور.
وبالنظر إلى أنّ الآية اللاحقة تعرّف المجموعة الثانية بـ (أصحاب المشئمة)والتي هي مأخوذة من مادّة (شؤم) فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب(6).
عبارة "ما أصحاب الميمنة" هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين، وهذه قمّة الروعة في الوصف لمثل هذه الحالات، ويمكن تشبيه ذلك بقولنا: فلان إنسان يا له من إنسان!
ثمّ يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله: (وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة) حيث الشؤم والتعاسة، وإستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال.
والتعبير بـ "ما أصحاب المشئمة" هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.
وأخيراً يصف المجموعة الثالثة أيضاً بقوله سبحانه: (والسابقون السابقون(2)اُولئك المقرّبون).
(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص، فهم اُسوة وقدوة وقادة للناس، ولهذا السبب فهم من المقرّبين إلى الحضرة الإلهيّة.
وبناءً على هذا، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله، أو أداء الصلوات الخمس، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإنّ كلّ واحد من هذه التفاسير تمثّل جانباً من هذا المفهوم الواسع، وإلاّ فإنّ هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع هذه الأعمال، والطاعات وغيرها.
وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم "هابيل"، و "مؤمن آل فرعون"، و "حبيب النجّار" الذين تميّز كلّ منهم بأسبقيته في قومه، وكذلك "أمير المؤمنين" (ع) الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال، فإنّ هذا التّفسير في الحقيقة هو بيان للمصاديق الواضحة، وليس تحديداً لمفهوم الآية(7).
وجاء في حديث آخر أنّ رسول الله (ص) قال: "أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله في يوم القيامة؟ فقال أصحابه: الله ورسوله أعلم، قال (ص): (الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه، وإذا سألوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم"(8).
وجاء في بعض الرّوايات أيضاً أنّ المقصود بـ (السابقون) هم الأنبياء المرسلون وغير المرسلين(9).
"ونقرأ في حديث لابن عبّاس أنّه قال: "سألت رسول الله حول هذه الآية فقال: "هكذا أخبرني جبرائيل، ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنّة، المقرّبون من الله لكرامته لهم"(10).
وكما تقدّم إنّه بيان للمصاديق الواضحة من المفهوم الذي ذكر أعلاه، الذي يشمل جميع (السابقين) في كلّ الاُمم والشعوب.
ثمّ يوضّح - في جملة قصيرة - المقام العالي للمقرّبين حيث يقول سبحانه: (في جنّات النعيم)(11).
التعبير بـ (جنّات النعيم) يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية، ويمكن إعتبار هذا التعبير إشارة إلى أنّ بساتين الجنّة هي وحدها مركز النعمة والراحة في مقابل بساتين الدنيا التي تحتاج إلى الجهد والتعب، كما أنّ حالة المقربين في الدنيا تختلف عن حالة المقرّبين في الآخرة، حيث أنّ مقامهم العالي في الدنيا كان توأماً مع المسؤوليات والطاعات في حين أنّ مقامهم في الآخرة سبب للنعمة فقط.
ومن البديهي أنّ المقصود من "القرب" ليس "القرب المكاني" لأنّ الله ليس له مكان، وهو أقرب إلينا من أنفسنا، والمقصود هنا هو "القرب المقامي".
ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الاُمم السابقة وفي هذه الاُمّة أيضاً حيث يقول سبحانه:
(ثلّة من الأوّلين) أي أنّهم جماعة كثيرة في الاُمم السالفة والأقوام الاُولى.
(وقليل من الآخرين).
(ثلّة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من الصوف، ثمّ تحوّلت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.
وأخذها البعض أيضاً من (ثلّ عرشه) بمعنى سقط وإنهار، يقال (سقط عرشه وإنقلعت حكومته) وإعتبرها البعض (قطعة)، وذلك بقرينة المقابلة بـ (قليل من الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.
وطبقاً لهاتين الآيتين فإنّ قسماً كبيراً من المقرّبين هم من الاُمم السابقة، وقسم قليل منهم فقط هم من اُمّة محمّد (ص).
ويثار سؤال هنا وهو: كيف يتناسب العدد القليل من مقرّبي اُمّة محمّد مع الأهميّة البالغة لهذه الاُمّة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها من أفضل الاُمم؟ قال تعالى: (كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس ..).(12)
وللجواب على هذا السؤال يجدر الإلتفات إلى نقطتين:
الاُولى: إنّ المقصود من المقرّبين هم السابقون في الإيمان، ومن المسلّم أنّ السابقين لقبول الإسلام في الصدر الأوّل منه كانوا قلّة، أوّلهم من الرجال الإمام علي (ع)، ومن النساء خديجة (رض)، في الوقت الذي نعلم أنّ كثرة الأنبياء السابقين وتعدّد اُممهم، ووجود السابقين في كلّ اُمّة يؤدّي إلى زيادتهم من الناحية العددية.
والنقطة الثانية: أنّ الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية; حيث يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الاُمّة قليلا، إلاّ أنّ مقامهم أفضل كثيراً، كما هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم، إذ يختلفون بإختلاف درجاتهم: (تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض).(13)
وممّا يلزم ذكره أنّ قسماً من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في الإيمان، مع توفّر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة السابقين من حيث الأجر والجزاء، لذلك فقد نقل في بعض الرّوايات عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون"(14).
وجاء في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنّه خاطب مجموعة من أصحابه فقال لهم: "أنتم السابقون الأوّلون والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا إلى ولايتنا، وفي الآخرة إلى الجنّة"(15).
ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض المفسّرين فسّر "الأوّلين والآخرين" بـ(الأوّلين في الاُمّة الإسلامية والآخرين فيها) وإنسجاماً مع هذا الرأي فإنّ جميع المقرّبين هم من الاُمّة الإسلامية.
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والرّوايات التي وردت في ذيل هذه الآيات، حيث أنّها عرّفت أشخاصاً من الاُمم السابقة بالخصوص بعنوان أنّهم من السابقين الأوّلين.
1- جاء في الآيات اللاحقة إستعمال أصحاب الشمال بدلا من أصحاب المشئمة.
2- في تركيب هذه الآية والآيات اللاحقة إحتمالات عديدة: الأوّل: أنّ (السابقون) الاُولى مبتدأ، والثانية وصف أو تأكيد له، (واُولئك المقرّبون) مبتدأ وخبر والتي هي في المجموع خبر لكلمة (السابقون) الاُولى. ويحتمل البعض الآخر أنّ (السابقون السابقون) مبتدأ وخبر. وشبّه بشعر أبي النجم المعروف حين يقول: (أنا أبو النجم وشعري شعري) والذي هو في الواقع نوع من الوصف العالي.
وهناك إحتمال آخر وهو أنّ (السابقون) الاُولى هي بمعنى السابقين في الإيمان، والسابقون الثانية بمعنى السابقين إلى الجنّة والتي ستكون كذلك مبتدأ وخبر.
3- نقل هذا الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في مجمع البيان، ج9، ص215.
4- تفسير المراغي، ج27، ص134.
5- تفسير نور الثقلين، ج5، ص206.
6- تفسير نور الثقلين، ج5، ص209.
7- الجار والمجرور الموجود في الآية (جنّات النعيم) ممكن أن يكون متعلّق بما قبله يعني (المقرّبين)، أو مرتبطة بحال محذوف جاء للمقرّبين وتقديره (كائنين في جنّات النعيم)، أو يكون خبراً بعد خبر.
8- آل عمران، 110.
9- البقرة، 253.
10- تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.
11- تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.
12- مفردات الراغب مادّة (سر).
13- أكواب جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له، وأباريق جمع إبريق وهي في الأصل أُخذت من الفارسية (أبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة، ومن الاُخرى ذات أنبوب لصبّ السائل، وكلمة كأس تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه، ومعين من مادّة (معن) على وزن (صحن) بمعنى الجاري.
14- (يصدّعون) من مادّة (صداع) على وزن (حباب)، بمعنى وجع الرأس، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الإنفلاق) لأنّ الإنسان عندما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم، لذا فإنّ هذه الكلمة قد إستعملت في هذا المعنى. (وينزفون) من أصل (نزف) على وزن (حذف) بمعنى سحب جميع مياه البشر بصورة تدريجيّة، وتستعمل أيضاً حول (السُكْرُ) وفقدان العقل.
15- (فاكهة ولحم) كلاهما معطوف على أكواب وهذه الأشياء تهدى من قبل (الولدان المخلّدون) إلى المقرّبين.