الآيات 70 - 78

﴿فِيهِنَّ خَيْرَتٌ حِسَانٌ (70) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)حُورٌ مَّقْصُورَتٌ فِى الْخِيَامِ (72) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ (74) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَف خُضْر وَعَبْقَرِىٍّ حِسَان (76)فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَرَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـلِ وَالإكْرَامِ (78)﴾

التّفسير

زوجات الجنّة:

مرّة اُخرى: إستمرار لشرح نِعْم الجنّتين التي ذكرت في الآيات السابقة، تتحدّث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان الله التي أعدّها للصالحين من عباده، حيث يقول سبحانه في البداية: (فيهنّ خيرات حسان)(1).

تستعمل كلمة (خير) غالباً للصفات الجيّدة والجمال المعنوي، أمّا "حسن" فإنّها تستعمل للجمال الظاهر.

لذا فإنّ المقصود بـ (خيرات حسان) اُولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة، وحسن الظاهر.

وجاء في الرّوايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنّة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة، وعدم الإيذاء، وعدم النظر للرجال الأجانب .. والخلاصة أنّ جميع صفات الخير والجمال التي يجب أن تكون في الزوجة الصالحة موجودة فيهنّ، وهذه الصفات إشارة للصفات العالية التي يجب أن تكون في نساء هذه الدنيا ويجسّدن الاُسوة بذلك لجميع الناس والقرآن الكريم يعبّر عنهنّ بإختصار رائع أنهنّ (خيرات حسان)(2).

ثمّ يضيف مستمرّاً في وصف الزوجات في الجنّة: (حور مقصورات في الخيام).

"حور": جمع حوراء وأحور، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتماً وبياضها ناصعاً، وأحياناً تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههنّ أبيض.

والتعبير بـ "مقصورات" إشارة إلى أنهنّ مرتبطات ومتعلّقات بأزواجهنّ ومحجوبات عن الآخرين.

"خيام": جمع خيمة، وكما ورد في الرّوايات الإسلامية، فإنّ الخيم الموجودة في الجنّة لا تشبه خيم هذا العالم من حيث سعتها وجمالها.

و "الخيمة" كما ذكر علماء اللغة وبعض المفسّرين لا تطلق على الخيم المصنوعة من القماش المتعارف فحسب.

بل تطلق أيضاً على البيوت الخشبية وكذلك كلّ بيت دائري.

وقيل أنّها تطلق على كلّ بيت لم يكن من الحجر وأشباهه(3).

ومرّة اُخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

ويضيف سبحانه وصفاً آخر لحوريات الجنّة حيث يقول: (لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ)(4).

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنّة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات(5).

ويستفاد أيضاً من الرّوايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنّة(6) وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة الله سبحانه.

ثمّ يضيف تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنّة يذكر سبحانه تعالى: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان).

"رفرف" في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار، ثمّ اُطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

"عبقري" في الأصل بمعنى كلّ موجود قلّ نظيره، ولذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أنّ كلمة (عبقر) كان في البداية إسماً لمدينة (بريان) إنتخبه العرب لها، لأنّ هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم ونادر.

لذا فإنّ كلّ موضوع يقلّ نظيره ينسب لها ويقال "عبقري".

وذكر البعض أنّ "عبقر" كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية(7).

والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر وتستعمل كلمة "عبقري" ككلمة مستقلّة بمعنى نادر الوجود، وتأتي جمعاً في بعض الأحيان، كما في الآية مورد البحث.

و (حسان) جمع (حسن) على وزن "نسب" بمعنى جيّد ولطيف.

وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعابير حاكية جميعاً عن أنّ كلّ موجودات الجنّة رائعة: الفاكهة، الغذاء، القصور، الأفرشة .. والخلاصة أنّ كلّ شيء فيها لا نظير له ولا شبيه في نوعه، ولابدّ من القول هنا أنّ هذه التعبيرات لا تستطيع أبداً أن تعكس تلك الإبداعات العظيمة بدقّة، وإنّها تستطيع - فقط - أن ترسم لنا صورة تقريبية من الصورة الحقيقيّة للموجودات في الجنّة.

وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجنّ والإنس هذا السؤال: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنّة؟ إنّ كلّ هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم .. إلاّ أنّه - مع الأسف - قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة، ومصدر عطائها وهو الله سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل .. فأيّاً منها تنكرون وتكذّبون؟

ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: (تبارك اسم ربّك ذي الجلال والإكرام).

"تبارك" من أصل (برك) على وزن (درك) بمعنى صدر البعير، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلا، ومن هنا إستعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والإستقامة، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهيّة المقدّسة بإعتبارها مصدراً لجميع الخيرات والبركات.

وإستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهيّة - سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق - فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.

والمقصود من (اسم) هنا هو صفات الله تعالى خصوصاً الرحمانية التي هي منشأ البركات، وبتعبير آخر فإنّ أفعال الله تعالى مصدرها من صفاته، وإذا خلق عالم الوجود فذلك من إبداعه ونظام خلقه، وإذا وضع كلّ شيء في ميزان فذلك ما أوجبته حكمته، وإذا وضع قانون العدالة حاكماً على كلّ شيء فإنّ (علمه وعدالته) توجبان ذلك.

وإذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مرّ بنا في هذه السورة فإنّ (إنتقامه يقضي ذلك، وإذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات والنعم العظيمة الماديّة والمعنوية - في هذا العالم وفي الآخرة - فإنّ رحمته الواسعة أوجبت ذلك، وبناءً على هذا فإنّ اسمه يشير إلى صفاته وصفاته هي نفس ذاته المقدّسة.

والتعبير بـ (ذي الجلال والإكرام) إشارة إلى كلّ صفات جماله وجلاله.

(ذي الجلال) إشارة إلى الصفات السلبية، و (ذي الإكرام) إشارة إلى الصفات الثبوتية.

والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم الله (الرحمن) وإنتهت باسم الله ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

ملاحظات

1 - في الآية رقم (37) من هذه السورة بعد ذكر النعم الإلهيّة المختلفة المعنوية والماديّة في الدنيا يقول سبحانه: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام).

وفي نهاية السورة وبعد ذكر أنواع النعم الاُخروية يقول سبحانه: (تبارك اسم ربّك ذو الجلال والإكرام).

إنّ هاتين الآيتين توضّحان حقيقة مهمّة وهي أنّ جميع الخطوط تنتهي إلى ذاته المقدّسة، وأنّ جميع ما في الوجود مصدره الله سبحانه، فالدنيا منه، والعقبى كذلك، وإنّ جلاله وإكرامه قد شمل كلّ شيء.

2 - ونقرأ في حديث للرسول الأعظم (ص) أنّ رجلا كان يدعو الله في حضرته حيث قال: "ياذا الجلال والإكرام فقال (ص): قد استجيب لك فسل(8).

وجاء في حديث آخر أنّ الرّسول (ص) شاهد رجلا يقيم الصلاة حيث دعا بعد الركوع والسجود والتشهّد بهذا الدعاء: اللهمّ انّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، المنّان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام ياحي ياقيّوم انّي أسألك ... فقال (ص): لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"(9).

3 - نقرأ في حديث للإمام الباقر (ع) في تفسير الآية: (تبارك اسم ربّك ذي الجلال والإكرام) أنّه قال: "نحن جلال الله وكرامته التي أكرم العباد بطاعتنا"(10).

ومن الواضح أنّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يدعون لغير الله، ولا يأمرون بغير طاعته وهم هداة الطريق إليه، وسفن النجاة في بحر الحياة المتلاطم.

وبناءً على هذا، فإنّهم يمثّلون مصاديق جلال الله وإكرامه، لأنّ الله تعالى قد شمل الناس بنعمة الهداية بواسطة أوليائه.

4 - ذكر البعض أنّ أوّل آيات قرئت في مكّة على قريش علناً هي الآيات الأوائل لهذه السورة يقول عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: إجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ.

فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإنّ الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتّى أتى المنام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتّى قام عند المقام ثمّ قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) رافعاً بها صوته: (الرحمن علّم القرآن) قال: ثمّ إستقبلها يقرؤها قال: فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن اُمّ عبد؟ قال: ثمّ قالوا: إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتّى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.

ثمّ إنصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه.

فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأُغادينّهم بمثلها غداً، قالوا: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون(11).

ولهذا السبب فقد إعتبر ابن مسعود أوّل مسلم جهر بالقرآن في مكّة أمام المشركين(12).

ربّنا، ياذا الجلال والإكرام، نقسم عليك بجلالك وإكرامك ألاّ تحرمنا من نعم وهبات الجنّة.

ربّاه، إنّ دائرة رحمتك واسعة جدّاً، وإنّنا لم نعمل عملا يليق برحمتك، فعاملنا بما يليق بمقام رحمانيّتك.

إلهنا، نحن لا نكذّب أيّاً من نعمك، ونعتبر أنفسنا غارقين بإحسانك دائماً، فأدم نعمك علينا.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الرحمن


1- الدرّ المنثور، ص151.

2- تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.

3- تفسير الدرّ المنثور ج6 ص153.

4- تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص153.

5- تفسير البرهان، ج4، ص272.

6- سيرة ابن هشام، ج1، ص336.

7- اُسد الغابة، ج3، ص257.

8- تأريخ القرآن لمؤلّفه أبو عبدالله الزنجاني، ص59.

9- تفسير مجمع البيان، ج9، ص212; وتفسير البرهان، ج4، ص273.

10- خصال الصدوق، الباب الرابع، حديث 10.

11- ثواب الأعمال، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص203.

12- مجمع البيان، ج9، ص212.