الآيات 62 - 69
﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)مُدْهَامَّتَانِ(64) فَبأَىِّ ءَالإءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَـكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)﴾
التّفسير
جنّتان بأوصاف عجيبة:
بعد بيان صفات جنّتي الخائفين وخصوصياتهما المتميّزة، وإستمراراً للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنّتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفاً وإيماناً بالله تعالى من الفئة الاُولى، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.
يقول سبحانه في البداية: (ومن دونهما جنّتان).
ذكر تفسير أنّ لهذه الآية الأوّل: أحدهما ما بيّناه أعلاه.
والتّفسير الآخر هو أنّه توجد جنّتان اُخريان غير تلكما الجنّتين لهؤلاء
الأشخاص أنفسهم حيث يتجوّلون ويتنقّلون بين حدائق هذه الجنان، لأنّ طبع الإنسان ميّال للتنوّع والتبدّل.
وبالنظر إلى لحن هذه الآيات والرّوايات التي وردت في تفسيرها فانّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.
ونقرأ حديثاً للرسول (ص) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "وجنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، جنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" (أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون كناية عن إختلاف مرتبة ودرجة كلّ من الجنّتين)(1).
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية قال: "لا تقولنّ الجنّة الواحدة، إنّ الله تعالى يقول: "ومن دونهما جنّتان"، ولا تقولنّ درجة واحدة، إنّ لله تعالى يقول "درجات بعضها فوق بعض" إنّما تفاضل القوم بالأعمال"(2).
وفي نفس الموضوع ورد حديث للرسول محمّد (ص): "جنّتان من ذهب للمقرّبين، وجنّتان من ورق لأصحاب اليمين"(3) أي من فضّة.
ثمّ يضيف سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
ثمّ ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنّتين التي تشبه - إلى حدّ ما - ما ذكر حول الجنّتين السابقتين، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاُخرى حيث يقول سبحانه: (مدهامتان).
"مدهامتان": من مادّة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل، ثمّ اُطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار، ممّا يعكس منتهى السرور والإنشراح، لهذا فقد إستعمل لهذا المعنى.
ويضيف سبحانه مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وفي الآية اللاحقة يصف الجنّة وصفاً إضافياً حيث يقول سبحانه: (فيهما عينان نضّاختان).
"نضّاختان" من مادّة (نضخ) بمعنى فوران الماء.
ومرّة اُخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجنّ سؤالا إستنكارياً فيقول: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وتتحدّث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنّتين حيث تقول: (فيهما فاكهة ونخل ورمّان).
لا شكّ أنّ للفاكهة مفهوماً واسعاً يشمل جميع أنواعها، إلاّ أنّ التمر والرمّان خصّا بالذكر هنا لأهميّتهما الخاصّة، لا كما يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ ذكرهما هو لأنّهما لا يدخلان ضمن مفهوم الفاكهة، إذ أنّ هذا التصوّر خاطىء، لأنّ علماء اللغة أنكروا ذلك، بالإضافة إلى أنّ عطف الخاصّ على العام في الموارد التي لها إمتيازات أمر معمول به وطبيعي.
قال تعالى: (من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدو للكافرين).(4)
وهنا جاءت عبارة (جبريل وميكال) وهما من الملائكة العظام بعد ذكر لفظ الملائكة بصورة عامّة.
ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
بحث
قيمة الفاكهة:
الشيء الجدير بالذكر أنّ الآيات أعلاه خصّت الفاكهة بالذكر من بين مختلف أنواع أغذية الجنّة كما خصّت فاكهتي (الرطب والرمّان) بالذكر من بين جميع فواكه الجنّة أيضاً.
والغريب هنا ذكر النخل بدلا من الرطب، أمّا الرمّان فقد ذكر بإسمه، ولابدّ أن يكون لكلّ واحد من هذه الفواكه خصوصية.
أمّا ذكر الفاكهة بالخصوص من بين عموم الأغذية الموجودة في الجنّة فذلك لأهميّة الفاكهة في تغذية الإنسان: حتّى قيل: أنّ الإنسان موجود آكل للفاكهة، وللفاكهة دور مهمّ في وجود الإنسان ودوام حياته لا على الصعيد العلمي فقط، بل من الناحية التجريبيّة لعموم الناس أيضاً.
أمّا ذكر شجرة النخيل بدل فاكهتها فيمكن أن يكون للحاظ أنّ هذه الشجرة موضع إستفادة من جهات عديدة، في حين أنّ شجرة الرمّان ليست كذلك.
فالنخلة يستفاد من ورقها في صنع وسائل عديدة من لوازم الحياة كالفرش والقبّعات والملابس ووسائل الحمل والنقل والأسرّة، ويستفاد من أليافها في اُمور شتّى كذلك، كما أنّ البعض منها له خواص طبية، وحتّى أنّ جذعها يستخدم كأعمدة في البناء أو جسور لعبور الأنهار.
أمّا إختيار هاتين الفاكهتين من بين جميع فواكه الجنّة فهو بسبب تنوّعهما: فأحدهما: ينمو في المناطق الحارّة (النخيل).
والاُخرى: تنمو في المناطق الباردة (الرمّان).
أحدهما تتميّز بالمادّة السكرية، والاُخرى تتميّز بالمادّة الحامضية، واحدة حارّة من حيث طبيعتها والاُخرى باردة، إحداهما مغذّية والاُخرى مرويّة.
كما أنّ التمر يتمتّع بالكثير من المواد الحياتية وأنواع الفيتامينات، وقد إكتشفت ثلاث عشرة مادّة حياتية فيه، وخمس أنواع من الفيتامينات بالإضافة إلى بقيّة خواصها الاُخرى، (وقد بحثناها في نهاية الآية (الخامسة) من سورة مريم في هذا التّفسير تحت عنوان: التمر غذاء مقوٍّ وباعث للنشاط).
وأمّا "الرمّان" الذي عرّف في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّه سيّد الفواكه(5)، فقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة حول فوائد هذه الفاكهة ومنها تنقية الدم، واحتوائها على مقادير كبيرة من فيتامين (سي).
كما ذكرت في الكتب فوائد كثيرة اُخرى للرمّان (الحلو والحامض) كتقوية المعدة، ودفع الحمى الصفراء، واليرقان، والجرب (مرض جلدي) وتقوية البصر، ورفع التقيّحات المزمنة، وتقوية اللثة، ودفع الإسهال ... كما نقرأ في حديث للإمام الصادق (ع) في التأكيد على هذه الفاكهة: "أطعموا صبيانكم الرمّان فإنّه أسرع لشبابهم"(6).
وجاء في حديث آخر: "فإنّه أسرع لألسنتهم"(7).
وجاء في حديث آخر للإمام الصادق (ع) والإمام الباقر (ع) أنّهما قالا: "وما على وجه الأرض ثمرة كانت أحبّ إلى رسول الله من الرمّان"(8).
1- بحار الأنوار، ج66، ص164 حيث جاء في حديث آخر أنّه أسرع لألسنتهم.
2- المصدر السابق، ص165.
3- الكافي، ج6، ص352.
4- الضمير في (فيهنّ) والذي هو جمع مؤنث يمكن أن يرجع إلى مجموع الجنّات الأربع، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجنّتين اللتين ذكرتا أخيراً، بلحاظ ما فيهما من حدائق عديدة وقصور مختلفة، وهذا أنسب لأنّه في هذا فصل بين الجنّتين.
5- قال البعض: إنّ خيرات جمع (خيّرة) على وزن (سيّدة)، وقيل لها خيرات للتخفيف، وإعتبرها آخرون أنّها جمع (خيرة) على وزن (حيرة) وعلى كلّ حال فإنّها تعطي معنى الوصف، وليس بمعنى (أفعل التفضيل) لأنّه لا يجمع.
6- لسان العرب ومجمع البحرين والمنجد.
7- حول معنى الطمث أعطينا توضيحاً كافياً في نهاية الآية رقم (56) من نفس السورة.
8- الرعد، 23; والمؤمن، 8.