الآيات 56 - 61

﴿فِيهِنَّ قَـصِرَتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ (56)فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإحْسَـنِ إِلاَّ الإحْسَـنُ(60) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)﴾

التّفسير

الجنّة والزوجات الحسان:

في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنّتين، وهنا نتطرّق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات، حيث يقول سبحانه: (فيهنّ قاصرات الطرف)(1) قد قصرن نظرهنّ على أزواجهنّ، وليس لهنّ معشوق سواهم.

ثمّ يضيف تعالى: (لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ)(2).

وبناءً على هذا فإنّهن بواكر ولم يمسسهنّ أحد .. طاهرات من كلّ الجوانب.

نقل عن (أبي ذرّ) أنّ (زوجة الجنّة تقول لزوجها .. أُقسم بعزّة ربّي أنّي لم أجد شيئاً أفضل منك في الجنّة، فالشكر لله وحده، الذي جعلني زوجة لك وجعلك زوجاً لي)(3).

"طرف" على وزن (حرف) بمعنى جانب العين، وبما أنّ الإنسان عندما يريد النظر يحرّك أجفانه، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر، وبناءً على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن نظراتهنّ على أزواجهنّ.

ويعني أنّهنّ يكننّ الحبّ والودّ لأزواجهنّ فقط، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.

وفي التعقيب على نعمة الجنّة هذه يكرّر قوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

ثمّ يتطرّق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنّة حيث يقول: (كأنّهنّ الياقوت والمرجان) حيث تكون بشرتهنّ بإحمرار وصفاء ولمعان الياقوت وبياض وجمال غصون المرجان، وعندما يختلط هذان الوصفان (الأبيض والأحمر الشفّاف) فإنّه يمنحهنّ روعة الجمال التي لا مثيل لها.

الياقوت: حجر معدني ويكون غالباً أحمر اللون.

والمرجان: هو حيوان بحري يشبه أغصان الشجر، يكون أبيض اللون أحياناً واُخرى أحمر وألوان اُخرى، والظاهر أنّ المقصود به هنا هو النوع الأبيض(4).

ومرّة اُخرى، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

وفي نهاية هذا البحث يقول عزّوجلّ: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان)(5).

وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملا صالحاً في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟

وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية فسّرت "الإحسان" في هذه الآية بالتوحيد فقط، أو التوحيد والمعرفة، أو الإسلام.

إلاّ أنّ الظاهر أنّ كلّ واحد في هذه التفاسير هو مصداق لهذا المفهوم الواسع الذي يشمل كلّ إحسان في العقيدة والقول والعمل.

جاء في حديث للإمام الصادق (ع) أنّه قال: "آية في كتاب الله مسجّلة.

قلت: وما هي؟ قال: قول الله عزّوجلّ: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، وليس المكافأة أن تصنع كم صنع حتّى تربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل في الإبتداء"(6).

وبناء على هذا فالجزاء الإلهي في يوم القيامة يكون أكثر من عمل الإنسان في هذه الدنيا.

وذلك تماشياً مع الإستدلال المذكور في الحديث أعلاه.

يقول الراغب في المفردات: الإحسان فوق العدل، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له فالإحسان زائد على العدل .. ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم، مضافاً إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق الله ولطفه، وبركاتها تعود عليهم.

بحث

جزاء الإحسان:

ما قرأناه في الآية الكريمة: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) هو قانون عام في منطق القرآن الكريم، حيث يشمل الله سبحانه والخلق وكافّة العباد، والمسلمون جميعاً يعلمون بعمومية هذا القانون وعليهم مقابلة كلّ خير بزيادة، كما ذكر الإمام الصادق (ع) في حديثه أعلاه حيث يفترض أن يكون التعويض أفضل من العمل المنجز (المقدّم) وليس مساوياً له، وإلاّ فإنّ المبتدىء بالإحسان هو صاحب الفضل.

وحول أعمالنا في حضرة الباري عزّوجلّ فإنّ المسألة تأخذ بعداً آخر، حيث أنّ أحد الطرفين هو الله العظيم الكريم الذي شملت رحمته وألطافه كلّ عالم الوجود، وإنّ عطاءه وكرمه يليق بذاته وليس على مستوى أعمال عباده، وبناءً على هذا فلا عجب أن نقرأ في تأريخ الاُمم بصورة متكرّرة أنّ أشخاصاً قد شملتهم العناية الإلهيّة الكبيرة بالرغم من إنجازهم لأعمال صغيرة، وذلك لخلوص نيّاتهم ومن ذلك القصّة التالية:

نقل بعض المفسّرين أنّ شخصاً مسلماً شاهد امرأة كافرة تنثر الحبّ للطيور في الشتاء فقال لها: لا يقبل هذا العمل من أمثالك، فأجابته: إنّي أعمل هذا سواء قبل أم لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتّى رأى الرجل هذه المرأة في حرم الكعبة.

فقالت له: ياهذا، إنّ الله تفضّل عليّ بنعمة الإسلام ببركة تلك الحبوب القليلة(7).


1- تفسير العياشي طبقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص199. تفسير مجمع البيان، ج9، ص208.

2- روح البيان، ج9، ص310.

3- مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.

4- المصدر السابق.

5- الدرّ المنثور، ج6، ص146 وكما ذكرنا أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون إشارة إلى إختلاف درجة هاتين الجنّتين.

6- البقرة، 98.

7- نقل هذا التعبير في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (بحار الأنوار، ج66، ص163).