الآيات 37 - 45
﴿فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ(39) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الُْمجْرِمُونَ بِسِيمَـهُمْ فَيُؤخَذُ بِالنَّوَصِى وَالاَْقْدَامِ (41) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَـذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الُْمجْرِمُونَ (43)يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيم ءَان (44) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(45)﴾
التّفسير
يُعرفُ المجرمون بسيماهم:
تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب، يقول سبحانه في بداية الحديث: (فإذا انشقّت السماء فكانت وردةً كالدهان)(1).
ويستفاد من مجموع آيات "القيامة" بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّاً في كلّ الوجود، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه; وهي إنشقاق وتناثر الكرات السماوية، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.
(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر، فإنّ معنى الإحمرار يتداعى للذهن منها.
ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى "الخيل الحمر"، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة، وفي الشتاء يحمرّ، ويقتم لونها في البرد الشديد، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارةً يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقاً، وأحياناً أصفر، واُخرى أسود قاتم ومعتم.
"دهان" على وزن (كتاب)، بمعنى الدهن المذاب، وتطلق أحياناً على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية، وغالباً ما تكون لها ألوان متعدّدة، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو إختلاف لونها.
وفسّر البعض "الدهان" بمعنى الجلد أو اللون الأحمر، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم.
حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اُخرى من حوادث عالمنا هذا.
فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلاّ إذا رأيناها.
ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة - أو قبلها - تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء، ولطف من ألطاف الله سبحانه، يتكرّر هذا السؤال: (فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان).
وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم، حيث يقول سبحانه: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان).
ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم، فهو يوم البروز، وكلّ شيء يُقرأ في وجه الإنسان.
قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاُخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة، كما ورد في الآية: (وقفوهم إنّهم مسؤولون)،(2) وكما في قوله تعالى: (فوربّك لنسألنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون).(3)
ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّاً، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه، حيث لابدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية، وطبقاً لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفاً، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقاً، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.
كما أنّ بعض المواقف الاُخرى لا يسمح له بالكلام، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).(4)
كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(5).
وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(6).
وخلاصة القول: إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها، وكلّ واحدة منها أشدّ رعباً من الاُخرى.
ومرّة اُخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
نعم إنّه لا يسأل حيث (يعرف المجرمون بسيماهم)(7) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال، واُخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى: (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة).(8)
ثمّ يضيف سبحانه: (فيؤخذ بالنواصي والأقدام).
"النواصي": جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الإتّصال والإرتباط، "وأخذ بناصيته" بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه، كما تأتي أحياناً كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.
أقدام: جمع "قدم" بمعنى الأرجل.
والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في جهنّم، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!
ومرّة اُخرى يضيف سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.
ثمّ يقول سبحانه: (هذه جهنّم التي يكذّب بها المجرمون).
وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسول (ص)فحسب، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع.
وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسوله (ص): هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون بإستمرار في هذه الدنيا.
وقيل: إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه: هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.
ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول: (ويطوفون بينها وبين حميم آن).
"آن" و "آني" هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق، وفي الأصل من مادّة (إنا) على وزن (رِضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.
وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب جهنّم، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون، قال تعالى: (يسحبون في الحميم ثمّ في النار يسجرون).(9)
والتعبير بـ (يطوفون بينها وبين حميم آن) في الآية مورد البحث، يتناسب أيضاً مع هذا المعنى.
ومرّة اُخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ، الذي هو لطف من الله يقول الباريء عزّوجلّ: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
1- كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (111).
2- (سيما) في الأصل بمعنى العلامة، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.
3- عبس، 39 ـ 41.
4- المؤمن، 71 ـ 72.
5- في الصورة الاُولى يكون المقام إسم مكان، وفي الثانية يكون مصدراً (ميميّاً).
6- اُصول الكافي طبقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص197 حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمام (عليه السلام) ذكر هذا في تفسير الآية (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى) سورة النازعات / 40 بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد.
7- آل عمران، 15.
8- النور، 38.
9- يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).