الايات 50 - 55

﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاُْولَى (50) وَثَمُودَاًْ فَمَآ أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوح مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)فَغَشَّـهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكَ تَتََمارَى (55)﴾

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات - كالآيات المتقدّمة - تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاُولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين:

الأوّل: كان ناظراً إلى مسؤولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني: ناظر إلى إنتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة - وإن شئت قلت - تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع اُمم من الاُمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم، وفي ذلك إنذار لاُولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(1).

فتبدأ الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث فتقول: (وأنّه أهلك عاداً الاُولى)وصف عاد بـ "الاُولى" إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه "عاديّ" أو لوجود اُمّتين في التاريخ باسم "عاد" والاُمّة المعروفة التي كانت نبيّها هود (ع)تُدعى بـ "عاد الاُولى"(2).

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (وثمود فما أبقى).

ويقول في شأن قوم نوح: (وقوم نوح من قبل إنّهم كانوا هم أظلم وأطغى).

لأنّ نبيّهم نوحاً عاش معهم زماناً طويلا، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم، فلم يستجب لدعوته إلاّ قليل منهم، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم وإستكبارهم وإيذائهم نبيّهم نوحاً وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الاُمم فهي "قوم لوط" المشار إليهم بقوله تعالى: (والمؤتفكة أهوى).

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد إقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض، وطبقاً لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد إقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميراً .. (فغشّاها ما غشى)(3).

أجل .. لقد أُمطروا بحجارة من السماء، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط، إلاّ أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية 70 من سورة التوبة والآية 9 من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات، وقد إحتمل بعضهم أنّ هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء، إلاّ أنّ آيات القرآن الاُخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (82) من سورة هود: (فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود)!

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة "المدينة المقلوبة" هي "البصرة"! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياً خاطب أهلها بالقول: (ياأهل البصرة وياأهل المؤتفكة وياجند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام علي (ع) هو من باب التطبيق والمصداق، لا التّفسير، لإحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية .. وما اُبتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة إستفهام إنكاري قائلا: (فبأيّ آلاء ربّك تتمارى)؟

فهل تشكّ وتتردّد بنعم الله، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحداً بوزر أحد; وما جاء في الصحف الاُولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكٍّ بهذه النعمة، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الاُمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبي (ص) إلاّ أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

"تتمارى"(4) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

"آلاء" جمع: ألأ، أو إلىء - على وزن فعل - والألىء معناها النعمة .. وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الاُمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقاً للنعمة .. إلاّ أنّه من جهة كونه درساً للعبرة "للآخرين" ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن إعتبار ذلك نعمة عظيمة.


1- الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة، لأنّها صفة للنفس المحذوفة، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

2- مجمع البيان، ج9 (بداية سورة القمر).

3- تفسير الفخر الرازي، ج29، ص29.

4- ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اُخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.