الايات 42 - 49

﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى(45) مِن نُّطْفَة إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاُْخْرَى(47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى(49)﴾

التّفسير

كلّ شيء ينتهى إليه:

في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضاً.

ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن: (وأنّ إلى ربّك المنتهى).

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته، وأخيراً فإنّ إبتداء هذا العالم والموجودات وإنتهاؤها كلّها منه وإليه، وتعود إلى ذاته المقدّسة.

ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا"(1).

أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدوداً.

وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوماً آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفاً ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّناً حاكمية الله في أمر ربوبيته وإنتهاء اُمور هذا العالم إليه فيقول: (وانّه هو أضحك وأبكى وأنّه هو أمات وأحيا وأنّه خلق الزوجين الذكر والاُنثى(2) من نطفة إذا تمنى)!

وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة إنتهاء الاُمور إليه وتدبيره وربوبيته، لأنّها تقول: إنّ موتكم وحياتكم بيده وإستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره، فهو يضحك، وهو يبكي، وهو يميت، وهو يحيي، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه: أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(3).

وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال:

انّ فَصل الربيع فصل جميل تضحك الأرض من بكاء السماء

وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاُخر أو نادرتان جدّاً.

أمّا تصوير إنفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّاً، وكلّ هذه الاُمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!

وعلى كلّ حال، فإنتهاء جميع الاُمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضاً من قِبَلِ الله وتدبيره وتنتهي إليه!.

وبعد ذكر الاُمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قِبَل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول: (وأنّ عليه النشأة الاُخرى).

"النشأة": معناها الإيجاد والتربية، و "النشأة الاُخرى" ليست شيئاً سوى القيامة!

والتعبير بـ "عليه" من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم، إقتضت حكمته أن تكون نشأة اُخرى لتتحقّق العدالة.

أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة، فلابدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اُخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعداً محتوماً على نفسه، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (وأنّه هو أغنى وأقنى) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب، بل أولاه غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من اُمور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

"وأغنى": فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.

"وأقنى": فعل مشتقّ من قنية على وزن جِزيَة، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(4).

فيكون معنى الآية على هذا النحو: هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الاُمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها، أو الاُمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يُعدّ أكبر "رأس مال" دائم!

وهناك تفسير آخر لأقنى، وهو أنّه ما يقابل أغنى، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته، نظير ذلك ما جاء في الآية (26) من سورة الرعد: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدّر).

إلاّ أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن "أقنى" من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون "شاهداً" على هذا التّفسير.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول: (وأنّه هو ربّ الشعرى).

والتعويل في القرآن على "الشعرى" النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعاناً ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر تماماً .. هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفةً من المشركين العرب كانت تعبده، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى "وربّكم".

وينبغي الإلتفات - ضمناً - أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويُدعى بنجم الشعرى اليماني "لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية" والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية "والشام شمال الجزيرة أيضاً" إلاّ أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.

وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم "الشعرى" سنتحدّث عنه بعد قليل.

بحوث

1 - كلّ الدلائل تشير إليه

إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة، بدءاً من مسألة الموت والحياة، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارةً وتبكيه اُخرى، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.

والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.

وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.

وبالطبع فإنّ النشأة الاُخرى بأمره أيضاً، لأنّها حياة جديدة وإمتداد لهذه الحياة وإستمرارها.

هذا البيان - يبرز خطّ التوحيد من جهة .. ومن - جهة اُخرى - خطّ المعاد،

لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضاً.

وبتعبير آخر، إنّ جميع هذه الاُمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته .. أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!

2 - عجائب نجم الشعرى:

"نجم الشعرى" كما أشرنا إليه آنفاً من أشدّ النجوم في السماء لمعاناً وإشراقاً وهو معروف بنجم الشعرى اليماني، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضاً فقد أطلق عليه "باليماني"!

وكانت طائفة من العرب كقبيلة "خزاعة" تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض .. فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها، لئلاّ يُشتبه المخلوق بالخالق ويُجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.

هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عُدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!

أ - طبقاً للتحقيقات التي اُجريت في المراصد المعروفة في العالم عن "الشعرى" ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ 120 ألف درجة سانتيغراد!.

مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز 6500 درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.

ب - الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزناً من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريباً، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّاً على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!

فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطاً بهذا المستوى؟!

ج - يظهر نجم الشعرى - في قرننا - عند فصل الشتاء إلاّ أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفاً من كوكب الشمس، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.

ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية 300 ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو "متراً" .. في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلاّ بعد عشر سنين، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!

د - لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة.

وأوّل من إكتشفه عالم يدعى بسل besell عام 1844م إلاّ أنّه رؤي عام 1862 بالمجهر "التلسكوب" ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في 50 عاماً(5).

كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

3 - حديث عميق المحتوى عن النّبي (ص) :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبي (ص) مرّ بقوم يضحكون فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال: إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال: ائت هؤلاء، فقل لهم: إنّ الله أضحك وأبكى(6).

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائماً، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب، والضحك في محلّه مطلوب أيضاً، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعندما نقرأ في الآية 82 من سورة التوبة قوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون) فهذا الأمر وارد في المنافقين، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول: (والنجم إذا هوى) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله: (وانّه هو ربّ الشعرى) فإذا جمعنا الآيتين جنباً إلى جنب فهمنا لِمَ لا يصحّ عبادة الشعرى، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضاً، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!


1- دائرة المعارف الإسلامية مادّة: شعرى.

2- تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص130.

3- ينبغي الإلتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحَدَ عَشرَ فصلا، كلّها بدأت بأنّ: فأوّلها جاء في الآية 38 ألاّ تزر وازرة وزر اُخرى وآخرها وأنّه أهلك عاداً الاُولى.

4- مجمع البيان وروح المعاني، وتفسير الرازي.

5- "ما" في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية .. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!.

6- بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على إشتراك طرفين في الفعل، إلاّ أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد، وهو امّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد .. "فلاحظوا بدقّة".