الآيات 5 - 12
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالاُْفُقِ الاَْعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)أَفَتُمَرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)﴾
التّفسير
أوّل لقاء مع الحبيب:
تعقيباً على الآيات المتقدّمة التي تحدّثت عن نزول الوحي على الرّسول (ص) يجري الكلام في هذه الآيات عن معلّم الوحي.
ولكن ينبغي قبل كلّ شيء الإلتفات إلى أنّ هذه الآيات تبدو لأوّل وهلة وكأنّها محاطة بهالة من الإبهام ممّا يستلزم أن تبحث في معطياتها ومفاهيمها بدقّة كاملة لإزالة الإبهام عنها، فتتناول أوّلا تفسيرها الإجمالي ثمّ نتناولها بالتفصيل!
تقول الآية: إنّ من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علم النّبي (ص) (علّمه شديد القوى).
وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنّه ذو قدرة خارقة ومتسلّط على كلّ شيء: (ذو مرّة فاستوى).
وقد علّمه هذا التعليم عندما كان بالاُفق الأعلى: (وهو بالاُفق الأعلى).
ثمّ إقترب وإقترب حتّى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل (ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى) ثمّ أنّ الله تعالى أنزل عليه الوحي (فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى).
وهناك في تفسير هذه الآيات نظريتان إحداهما مشهورة، والاُخرى مغمورة .. ولكن يلزمنا أن نتناول بعض مفردات الآيات بالإيضاح ثمّ بيان التّفسيرين المختلفين.
"المِرّة" .. كما يقول أرباب اللغة وأهلها معناها الفَتل، وحيث أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوّة .. فإنّ هذه الكلمة إستعملت في الاُمور المادية أو المعنوية المحكمة والقويّة.
وقال بعض المفسّرين: المِرّة مأخوذة من المرور، فمعناها العبور، لكن هذا الرأي لا ينسجم مع ما كتبه أهل اللغة في هذا الصدد.
"تدَلى" فعل مأخوذ من التدلّي على وزن تجلّي، ومعناه كما يقول الراغب في مفرداته الإقتراب، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة "دنا" الواردة قبله، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.
على أنّ بعض المفسّرين فَرّق بين الفعلين في المعنى فقال: "التدلّي" معناه التعلّق بالشيء كتعلّق الثمر بالشجر ولذلك يقال في الأثمار المتدلّية من أشجارها "دوالي"(1).
"قاب" بمعنى مقدار - و "قوس" (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى "قاب قوسين" .. قدر طول قوسين.
وفسّر بعضهم "القوس" بأنّه المقياس فهو مشتقّ من القياس، وحيث انّ مقياس العرب الذراع وهو ما بين الزند والمرفق فيكون معنى "قاب قوسين" على هذا الرأي: مقدار ذراعين.
وورد في بعض كتب اللغة لكلمة "قاب" معنى آخر، هو الفاصلة بين محل اليد من القوس إلى نقطة إنتهاء القوس.
فبناءً على هذا فإنّ "قاب قوسين" معناه مجموع إنحناء القوس (فلاحظوا بدقّة)(2).
- بعد هذا كلّه لنرجع إلى التّفسيرين - فالنظرية المشهورة الاُولى تقول أنّ معلّم النّبي أمين الوحي جبرئيل الذي له قدرة خارقة.
وكان يأتي النّبي بصورة رجل حسن الطلعة ويبلّغه رسالة الله، وظهر للنّبي بصورته الحقيقيّة مرّتين طوال فترة رسالة النّبي وعمره الشريف.
المرّة الاُولى هي ما تشير إليه الآيات محلّ البحث، إذ ظهر في الاُفق الأعلى فطبق المشرق والمغرب جميعهما، وكان عظيماً حتّى أنّه هال النبي، ثمّ دنا فاقترب من النّبي فلم يكن بينهما مسافة بعيدة إلاّ بمقدار ذراعين، والتعبير بـ "قاب قوسين" كناية عن منتهى الإقتراب.
والمرّة الثانية - ظهر له - في معراجه (ص) وسنبيّن ذلك في الآيات المقبلة التي تتحدّث عن هذا الأمر بإذن الله.
ويرى بعض المفسّرين ممّن إختار هذه النظرية بأنّ اللقاء الأوّل الذي ظهر له جبرئيل فيها بصورته الحقيقيّة كان في غار حراء الواقع في جبل النور(3).
إلاّ أنّ هذه النظرية بالرغم ممّا لها من أتباع كثيرين لا تخلو من إشكالات مهمّة:
1 - في الآية: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) مرجع الضمير في "عبده" هو الله بلا شكّ، مع أنّه لو كان "شديد القوى" يعني جبرئيل فإنّ جميع الضمائر في الآيات بعده تعود عليه .. صحيح أنّه يمكن أن يعرف أنّ موضوع هذه الآية خارج عن الآيات الاُخر من خلال القرائن الموجودة فيها، إلاّ أنّ إضطراب السياق في الآيات، وعدم تناسق عود الضمائر خلاف الظاهر قطعاً!
2 - (شديد القوى): هذا التعبير الذي يعني من له قوى خارقة إنّما يناسب ذات الله المقدّسة فحسب.
صحيح أنّ الآية (20) من سورة التكوير تعبّر عن جبرئيل بـ (ذي قوّة عند ذي العرش مكين) إلاّ أنّ بين (شديد القوى) الواسع في مفهومه وبين "ذي قوّة" المذكورة فيه كلمة "قوّة" بصيغة التنكير والإفراد فرقاً كبيراً.
3 - جاء في الآيات التالية أنّ النّبي رآه "عند سدرة المنتهى" (في السماء العليا) ولو كان المقصود منه جبرئيل فهو كان مع النّبي في معراجه من بداية المعراج إلى المنتهى، ولم يره النّبي عند سدرة المنتهى فحسب .. إلاّ أن يقال رآه في الأرض بصورة بشر وفي السماء بصورته الحقيقيّة .. ولا قرينة على ذلك في الآيات.
4 - التعبير بـ "علّمه" - وأمثاله لم يرد في القرآن في شأن جبرئيل أبداً، بل هو في شأن تعليم الله نبيّه محمّداً وأنبياءه الآخرين، وبتعبير آخر فإنّ جبرئيل لم يكن معلّم النّبي محمّد، بل أمين وحيه، ومعلّمه الله فحسب.
5 - صحيح أنّ جبرئيل ملك له مقام رفيع، إلاّ أنّه من المقطوع به أنّ مقام النّبي أعلى منه شأناً: كما ورد في قصّة المعراج أنّه كان يصعد - في المعراج - مع النّبي فوصلا إلى نقطة فتوقّف جبرئيل عن الصعود وقال للنبي: "لو دنوت قيد أنملة لاحترقت" إلاّ أنّ النّبي واصل سيره وصعوده!.
فمع هذه الحال فإنّ رؤية جبرئيل في صورته الأصلية لا تتناسب والأهميّة المذكورة في هذه الآيات، وبتعبير أكثر بساطةً: لم تكن رؤية النّبي لجبرئيل على تلك الأهميّة .. فمع أنّ هذه الآيات اهتمّت بهذه الرؤية إهتماماً بالغاً!
6 - جملة: (ما كذب الفؤاد ما رأى) هي أيضاً دليل على الرؤية القلبية لا البصرية الحسّية لجبرئيل.
7 - ثمّ بعد هذا كلّه فما ورد من الرّوايات عن أهل البيت لا يفسّر هذه الآيات بأنّها في رؤية النّبي لجبرئيل، بل الرّوايات موافقة للتفسير الثاني القائل بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات الله المقدّسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النّبي وهالته(4).
ينقل الشيخ الطوسي في أماليه عن ابن عبّاس عن رسول الله (ص) أنّه قال: "لمّا عُرِج بي إلى السماء دنوت من ربّي عزّوجلّ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى"(5).
وينقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع المضمون ذاته عن هشام بن الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (ع) من حديث طويل أنّه قال: "فلمّا اُسري بالنّبي وكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى رُفِعَ له حجاب من حُجُبهِ"(6).
وفي تفسير علي بن إبراهيم ورد أيضاً: "ثمّ دنا - يعني رسول الله - من ربّه عزّوجلّ"(7) وقد ورد هذا المعنى في روايات متعدّدة ولا يمكن عدم الإكتراث بهذا المعنى.
كما ورد هذا المعنى في روايات أهل السنّة، إذ نقل صاحب "الدرّ المنثور" ذلك عن ابن عبّاس من طريقين(8).
فمجموع هذه القرائن يدعونا إلى إختيار التّفسير الثاني القائل بأنّ المراد من "شديد القوى" هو الله، وأنّ النّبي كان قد إقترب من الله تعالى أيضاً.
ويبدو أنّ ما دعا أغلب المفسّرين إلى الإعراض عن هذا التّفسير (الثاني) وأن يتّجهوا إلى التّفسير (الأوّل) هو أنّ هذا التّفسير فيه رائحة التجسّم، ووجود مكان لله، مع أنّه من المقطوع به أنّه لا مكان له ولا جسمَ: (لا تدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار)،(9) (أينما تولّوا فثمَّ وجه الله)،(10) (وهو معكم أينما كنتم).(11)
ولعلّ مجموع هذه المسائل أيضاً جعل بعض المفسّرين يظهر عجزه عن تفسير هذه الآيات ويقول: هي من أسرار الغيب الخفيّة علينا.
قيل أنّهم سألوا بعض المفسّرين عن تفسير هذه الآيات فقال: إذا كان جبرئيل غير قادر على بلوغ ذلك المكان فمن أنا حتّى أدرك معناه(12)؟!
ولكن بملاحظة أنّ القرآن كتاب هداية وهو نازل ليتدبّر الناس ويتفكّروا في آياته فقبول هذا المعنى مشكل أيضاً.
إلاّ أنّنا إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ المراد من هذه الآيات هو نوع من الرؤية الباطنية والقرب المعنوي الخاصّ فلا تبقى أيّة مشكلة حينئذ.
توضيح ذلك: ممّا لا شكّ فيه أنّ الرؤية الحسّية لله غير ممكنة لا في الدنيا ولا في الاُخرى .. لأنّ لازمها جسمانيّته وماديّته، ولازم ذلك أيضاً تغيّره وتحوّله وفساده وأنّه يحتاج إلى الزمان والمكان، وهو مبرّأ عن كلّ ذلك لأنّه واجب الوجود.
إلاّ أنّ الله سبحانه يمكن رؤيته بالرؤية العقلية والقلبية، وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين في جوابه على "ذعلب اليماني": "لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان"(13).
لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الرؤية الباطنية على نحوين: رؤية عقلانية وتحصل عن طريق الإستدلال.
واُخرى رؤية قلبية، وهي إدراك فوق إدراك العقل ورؤية وراء رؤيته!
هذا المقام لا ينبغي أن يُدعى بمقام الإستدلال، بل هو المشاهدة، مشاهدة قلبية باطنية، وهذا المقام يحصل لأولياء الله على درجاتهم المتفاوتة وسلسلة مراتبهم .. لأنّ الرؤية الباطنية هي على مراتب أيضاً ولها درجات كثيرة، وبالطبع فإنّ إدراك حقيقتها لمن لم يبلغ ذلك المقام في غاية الصعوبة.
ومن الآيات المتقدّمة بما فيها من قرائن مذكورة يمكن أن يستفاد أنّ نبي الإسلام (ص) في الوقت الذي كان ذا مقام مشهود وفي مقام الشهود، فإنّه بلغ الأوج في طول عمره مرّتين فنال الشهود الكامل:
الأوّل: يحتمل أنّه كان في بداية البعثة، والثاني في المعراج، فبلغ مقاماً قريباً من الله وتكشّفت عنه الحجب الكثيرة، مقاماً عجز عن بلوغه حتّى جبرئيل الذي هو من الملائكة المقرّبين.
وواضح أنّ تعابير مثل "فكان قاب قوسين أو أدنى" وأمثال ذلك إنّما هو كناية عن شدّة القرب، وإلاّ فإنّ الله ليس بينه وبين عبده فاصلة مكانية لتقاس بالقوس أو الذراع، و "الرؤية" في الآيات - هنا - ليست رؤية بصرية أيضاً، بل الباطنية القلبية.
وفي البحوث السابقة في تفسير "لقاء الله" الوارد في آيات متعدّدة على أنّه من ميزات يوم القيامة مراراً قلنا إنّ هذا اللقاء على خلاف ما يتصوّره أصحاب الأفكار القصيرة والعقول الضيّقة بأنّه لقاء حسّي ومادّي، بل هو نوع من الشهود الباطني وإن كان في المراحل الدنيا ولا يصل إلى مراحل لقاء الأنبياء والأولياء لله، فكيف بمرحلة شهود النّبي الكامل ليلة المعراج!!
ومع ملاحظة هذا التوضيح تزول الإشكالات على هذا التّفسير، وإذا روعيت بعض التعابير المخالفة للظاهر فلم تعامل بالمنطق الضيّق وفسّرت بما وراء المسائل المادية فما يرد من إشكالات على هذا التّفسير لا يعدّ شيئاً مهمّاً بالقياس إلى ما يرد من إشكالات على التّفسير الأوّل .. فمع الإلتفات إلى ما قلناه نمرّ مروراً جديداً على الآيات محلّ البحث ونعالج مضمونها من هذا المنطلق والمنظار!
فعلى هذا التّفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النّبي (ص) بالصورة التالية.
إنّ الله الذي هو شديد القوى علّم النّبي في وقت بلغ حدّ الكمال والإعتدال في الاُفق الأعلى(14).
ثمّ قرب وصار أكثر إقتراباً حتّى كان بينه وبين الله مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى الله إليه ما أوحاه.
وحيث أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض، فانّه يؤكّد أنّ ما رآه قلب النّبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.
وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النّبي الباطني لله تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل وألطف، والله أعلم بحقائق الاُمور(15).
ونختم هذا البحث بحديث عن النّبي (ص) وآخر عن علي (ع).
1 - سئل رسول الله (ص) "هل رأيت ربّك؟ فأجاب: "رأيته بفؤادي"(16).
2 - وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك ياأمير المؤمنين؟ فأجاب: "أفأعبد ما لا أراه .. " ثمّ أشار سلام الله عليه بتفصيل ما بيّنه آنفاً.
1- في دعاء الندبة تعبير يناسب هذا المعنى أيضاً إذ يقول: يابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى دنواً وإقتراباً من الملأ الأعلى وفي ذيل هذا الدعاء ورد بعض القاب الله "شديد القوى" إذ يقول: وأره سيّده ياشديد القوى ..
2- نور الثقلين، ج5، ص149.
3- المصدر السابق.
4- المصدر ذاته، ص148.
5- الدرّ المنثور، ج6، ص123.
6- سورة الأنعام، الآية 103.
7- سورة البقرة، الآية 115.
8- سورة الحديد، الآية 4.
9- روح المعاني، ج9، ص219.
10- نهج البلاغة، الخطبة 179.
11- الضمير في: فاستوى والضمير في: وهو بالاُفق الأعلى يمكن أن يعودا على شخص النبي، كما يمكن أن يعودا على ذات الله المقدّسة.
12- لا بأس بذكر هذه اللطيفة هنا إجمالا وهي أنّ المعراج هل حدث للنبي مرّةً في عمره أو مرّتين؟ هناك كلام بين العلماء. ولعلّ هذه الآيات فيها إشارة إلى شهودين في معراجين ..
13- بحار الأنوار، ج18، ص287 ذيل مبحث المعراج.
14- الفعل "طغى" مضارعه يطغو، و طغي مضارعه يطغى، وباب الأوّل نَصر ينصر، وباب الثاني فرِح يفرح، وكلاهما بمعنى واحد، ومن هذا القبيل صغا يصغو وصغي يصغى.
15- قال بعض أصحاب (اللغة) والمفسّرين معنى النزلة هنا "مرّة" وليس المراد منها النّزول، فالنزلة الاُخرى تعني المرّة الثانية لا غير، لكن لا ندري لِمَ عزفوا عن المادّة الأصلية للنزلة في حين أنّ غيرهم أشاروا إليها وفسّروها بما بيّنا آنفاً فلاحظوا بدقّة.
16- مجمع البيان، ذيل الآيات محلّ البحث.